ثلاث لحظات فلسطينية- احمد دحبور
يحق لشهر تشرين الثاني «نوفمبر»، ونحن فيه، أن يسمى شهر المناسبات الفلسطينية، ففي اليوم الثاني منه، قبل واحد وثلاثين عاماً من نكبتنا التاريخية، تبرع اللورد جيمس آرثر بلفور بإطلاق وعده الشهير المشؤوم، بعمل حكومة صاحب الجلالة البريطاني على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وكان بلفور هذا رئيساً للدبلوماسية الإنكليزية بوصفه وزير خارجية بريطانيا العظمى آنذاك، ولأنه كان يحتل هذه الصفة رسمياً فلم يكن باستطاعته تجاهل وجود أهل وأصحاب شرعيين لهذه الفلسطين التي وعد بمنحها لليهود وكأنها من تركة أبيه، لهذا وضع ضمن وعده إشارة رفع عتب إلى الحقوق الشرعية لأصحاب الأرض الشرعيين على أن يراعي اليهود - بوصفهم المالكين الموعودين بالأرض - حقوق السكان هناك. وبهذا تكرس على الملأ وصف وعد بلفور بأنه وعد من لا يملك لمن لا يستحق..
إن قارئ تاريخ البلاد في تلك الآونة، يلفته أن اليهود لم يكونوا موجودين فيها تقريباً، بل إن وباء الهجرة اليهودية إلى فلسطين قد بدأ عملياً بعد هذا الوعد المشؤوم وبموجبه. أي أنها عملية مصادرة وبلطجة دولية عيني عينك. ولم يكن الوعد المشؤوم باكورة هذه الظاهرة السياسية الشاذة من أوروبا، فالذاكرة التاريخية تحفظ لنابليون بونابرت الذي ارتد ذليلاً دون أسوار عكا، أنه وعد اليهود بمنحهم «أرض الميعاد»..!!
إن استحضار الوعدين، وعد نابليون ووعد بلفور، لا يأتي للشكوى والتظلم، فالبشرية بأسرها «تشهد» لأوروبا بريادتها الاستعمارية وجورها على الشعوب المستضعفة، وإذا ظهرت فيما بعد بوادر ليبرالية واشتراكية ودعوات حقوق للبشر شعوباً وأفراداً، فإن هذه البوادر وإن توجتها ثورات كبرى كالثورة الفرنسية والثورة البلشفية، لا تنفي ان للشعوب - ومنها شعبنا العربي الفلسطيني ذكريات أليمة مع الاستعمار الأوروبي، وهي ذكريات تأسست عليها ثورات وحركات تحرر ودعوات نهضة لا تزال تترى حتى الآن، وقديماً قالت العرب ما تؤكده حديثاً: ما ضاع حق وراءه مطالب..
أما اللحظة التشرينية (النوفمبرية) الثانية فلسطينياً، فكانت في اليوم التاسع والعشرين من مثل هذا الشهر، عندما أقر المجتمع الدولي مبدأ تقسيم فلسطين إلى دولتين، وعلى ما في قرار التقسيم من جور، فإن التوازنات الدولية وفت بالشق اليهودي من القرار، فأجازت قيام دولة إسرائيل، بينما أسندت للشق الفلسطيني فصل النكبة فالهجرة والشتات، وكأنما كان المجتمع الدولي يرشو ضميره عندما استحدث ما يسمى وكالة إغاثة اللاجئين.. وكأن بطاقة المؤن مع بعض الملحقات التجميلية الشكلية تغني عن الوطن المسلوب في وضح النهار.. إن هذا السياق المدلهم كان يغفل الشعب الفلسطيني حتى وهو يقر بوجود مشكلة فلسطينية يؤزمها كون الفلسطينيين شعباً عصياً على الموت، بدليل سلسلة الانتفاضات والثورات والانفجارات منذ أحداث يافا 1920 حتى يوم الناس هذا. ولهذا كان طبيعياً أن تكون اللحظة الفلسطينية الثالثة في تشرين الثاني - نوفمبر أيضاً، فلسطينية هذه المرة، وذلك عندما أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية في الخامس عشر من نوفمبر تحديداً عن الدولة الفلسطينية.. دولة الحلم أو حلم الدولة..
أذكر لهذه المناسبة تلك الحالة الفريدة من النشوة والهياج والارتعاش والدموع حين أعلن الأخ أبو عمار قيام الدولة، ولكنه ما إن نزل عن المنبر، وصعد بعده وزير الخارجية الجزائري، بوعلام بالسايح، وأعلن أول اعتراف بالدولة الوليدة باسم الجزائر الديمقراطية الشعبية، حتى تحول حلم الدولة إلى دولة تشتق من الحلم واقعاً يليق بهذا الشعب الفريد في المعاناة والصمود..
ثم عدنا إلى الجزء الذي أتيح لنا من الوطن، بعد ثورات متعاقبة وانتفاضة أدخلت كلمة انتفاضة بحروفها العربية على قواميس العالم كافة.. وما ذلك إلا لأن الحق لا يموت بالتقادم ولا يعتوره وهن أو يأس.. قد تدخل الحيثيات السياسية على بعض التصريحات، وقد يتوهم العدو الصهيوني أن في خطابنا تراخياً عندما ركزنا على كلمة الاحتلال بدلاً من الوصف الحقيقي: العدو.. ولكن ملحمة الحياة على هذه الأرض تعطي أمثولاتها وتؤكد مقولة أسلافنا الخالدة: ما ضاع حق وراءه مطالب..
ولهذا الحق تجليات وتفاصيل ومتابعات وعنوان أكيد، هو حق العودة للفلسطينيين.. وهو حق أقرته مواثيق دولية ومهرته دماء لم تجف على امتداد قرن من الزمان.. ولا يلوح في الأفق أنها ستتوقف حتى يعود الصحيح إلى مكانه واللاجئ إلى بلده..
أما أنا فقد لا أستطيع زيارة مسقط رأسي في حيفا بموجب تصريح أو وساطة، ولكنني أكيد من أنني عائد إليها.. إن لم أكن أنا فسيعود ابني المولود هو وأمه في المنفى، فإن لم يكن هو فإن ابنه يجيب من يسأله عن بلده إنه من حيفا.. وحيفا هذه تقع في أجمل بلاد الدنيا وأغلاها.. رحم الله شاعرنا الحيفاوي حسن البحيري القائل:
وفلسطين لم تكن لعبة اللاعب
والنار، جمرها كيف يُلمسْ؟