"هداريم": جدران عازلة وقامات عالية!- بسام الكعبي
كانت الشمس الحارقة تتوسط السماء وتصب نار حممها على رؤوسنا ونحن نخرج من بوابة معتقل "هداريم" شرق يافا، مع انتهاء زيارة شقيقي عاصم بعد ظهر الثلاثاء في الثلاثين من تشرين أول الفائت. بحثنا، أنا ووالدي والرفيق الثالث وائل داود من قلقيلية عن ظل شجرة مجاورة للمعتقل الكبير الذي يضم أربعة سجون منفصلة إداريا، ومترابطة في مربع الإسمنت الذي يرتدي الأسلاك الشائكة المتوحشة، وتحت حراسة كلاب "ضالة". وتقع السجون الأربعة (هداريم، ريمونيم، هشارون واوفتيك) على أراضي مدينة الطيرة العربية في منطقة المثلث الفلسطيني، وتطل من جهة الشرق على ساحل مدينة تل أبيب الذي يبعد حوالي ثلاثين كيلو مترا.
طقوس للحب تحت ظلال البرتقال
قطعنا، نحن الثلاثة، عشرات الأمتار باتجاه بيارة للبرتقال بحثا عن ظل شجرة كبيرة، وافترشنا الأرض وتناولنا ما تيسر من طعام الفقراء: خبز وجبنه وخيار وبطاطا وزيتون وعصير. وقبل أن يستقر الطعام في الأمعاء الخاوية، خطف النوم العميق والدي وصديقه الدائم في رحلات العذاب للسجون وائل داود، وغط كلاهما في نوم عميق، وهما يتقاسمان طرفي سجادة العبادة بعد تأديتهما صلاة الظهر، في بيارة عطشى لتراتيل القرآن الكريم، وسجود المؤمنين على ترابها الطاهر، الذي ينوء مثقلا تحت وطأة احتلال قسري شرد أصحابها الأصليين، وأقام بجوارها سجنا لهم، وأجبرهم على سماع لغة جديدة لمستوطنين مسلحين بداء الجنون، يمتلكون "عشقا" منقطع النظير للبوابات والمفاتيح، ويطلقون عبر مكبرات الصوت بصورة منتظمة من فوق الجدران المسيجة بالحديد مفردات بالعبرية. وتسمع أحيانا البيارة أحاديث جانبية لعاملي مصلحة السجون، الذين يركنون سياراتهم في كراج مفتوح ملاصق لأغصانها النضرة التي تزهو بملامح عربية، يقتلها الحنين للمنفيين عن أحضانها. وتبذل البيارة جهدا منتظما لاصطياد حوار القابعين بكبرياء خلف الأسلاك المجاورة لعلها تسند بهم هامتها العالية، حتى يحين موعد العودة المنتظرة لأصحاب الأرض.
تأملتُ وحيدا الأشجار العالية والصامتة، ودققتُ بالبرتقال المهمل في أرجاء البيارة الواسعة، وتوقفتُ بمواجهة شجرة "الجريفوت" الوحيدة، قشرتُ واحدة من حباتها الكثيرة، بدتْ بطعم السكر رغم عدم نضجها. مضى الوقت بطيئا ونحن نلوذ بالصمت، نهرب من حرارة الشمس مستنجدين بظل البرتقال، قبل أن يستفيق والدي من نومه العميق. بدا حزينا عندما استيقظ مستذكرا تراب بيارة والده قبل أربعة وستين عاما: هل يشتاق البرتقال لنا يا ولدي؟ أطلق سؤاله بحزن، وطاف في المكان يبحث عن طفولته الهاربة في بيارة منسية، ثم اقترب من سرب للنمل، فأحضر له ما تبقى من خبز الفقراء؛ فركه بيده ورشه أمام حركته الدؤوبة: هل يستدل النمل على خبزنا يا بُني؟ ابتعد قليلا عن مسار حركة النمل، ثم وقف تحت غصن شجرة برتقال، وطلب لقطة واحدة بعدسة متواضعة لجهاز خليوي يرقد صامتا في قاع الحقيبة. اختزن صوت اللقطة المتواضعة حزنه في ملف صور الديجتال. ابتعدتُ عنه قليلا ليعصر أحزانه المعتّقة على وقع ذكريات طفولته التي عاشها قبل سنوات بعيدة في بيارات مجاورة نسبيا للمكان، لكنها تغرق أكثر نحو الغرب لتطل على بحر يافا. التقط والدي طقوسه الخاصة لاستعادة أربع وستين سنة من عذاب اللجوء القسري والشتات المهين من بلدة إلى أخرى حتى استقر أواسط الخمسينات في مخيم بلاطة، وترك ذكرياته معلقة على أغصان شجر الحمضيات حتى عودته الحتمية.
بداية الرحلة
في مطلع تشرين أول الفائت علمتُ بموافقة الاحتلال، للمرة الثالثة خلال عشر سنوات، على "تفضله" بمنحي تصريحا يسمح لي بزيارة أخي عاصم. كانت الزيارة الأولى لشقيقي الأسير قبل سنتين في معتقل نفحة، تلتها بعد عام زيارة ثانية في معتقل النقب الصحراوي، وتتزامن الزيارة الثالثة مع خاتمة عيد الأضحى المبارك.
في اليوم الأخير للعيد، توجهتُ مساء الإثنين إلى البيت في مخيم بلاطة شرقي نابلس استعدادا لزيارة "هداريم" فجر الثلاثاء برفقة والدي. ثمة دردشة مسائية سريعة مع الوالدة كشفت عن أمنيتها بمشاركتنا الزيارة، واقتنعتْ أن الضعف الذي ينهش ساقيها لا يسمح لها بزيارة صعبة تجبرها على قطع مسافات طويلة على قدميها المنهكتين. وتمكن مشكورا مكتب الصليب الأحمر في نابلس، استنادا إلى تقرير طبي، من توفير سيارة لها تقلّها قبيل منتصف شهر تشرين أول الفائت إلى الحاجز العسكري في قرية جبارة غرب طولكرم، ثم تنقلها سيارة أخرى لزيارة "هداريم". رحلتها الأخيرة كانت الأقل معاناة في مشوارها الطويل منذ عرفت بوابات السجون بدءا من أيار عام 1980، وهي تركض خلف الأبناء الخمسة المعتقلين من سجن إلى آخر.
غطستُ في نوم عميق جدا حرمني من فرصة بأحلام سعيدة أو كئيبة وحتى مروعة، وسحب من ذاكرتي صور طفولتي في سوق المخيم، وشارع المدارس، وأزقة الحارات الضيقة والمتشابهة. أفقتُ على صوت مؤذن الفجر يحث المؤمنين على صلاتهم: الصلاة خير من النوم. في الخامسة فجرا غادرتُ البيت برفقة والدي على وقع صلاة أمي ودعواتها بتسهيل طريق زيارتي إلى "هداريم". قطعتُ مسافة قصيرة في ليل المخيم الذي يقترب من الفجر باتجاه موقف سيارات الأجرة. وصلتُ ووالدي الكراج الشرقي لمدينة نابلس، قبل أن يطل الفجر من جبل النار. انتظرنا ساعة كاملة في ساحة واسعة وخالية تقريبا من سيارات النقل، حتى يحين موعد وصول حافلة "الصليب". تأملتُ ساحة المدينة وحَمامَها الذي يجوب المكان بحثا عن وجبته الصباحية، يتزاحم على فتات ألقى به بائع القهوة أمام ساحة محله المتواضع. بدا الرجل وكأنه يمارس هوايته الرائعة بتوفير وجبة منتظمة لحَمام يطير كل فجر على كتفيه. شغل السائق المحرك، واتجه غربا نحو مدينة طولكرم بعد اكتمال عدد الزائرين لتسعة عشر أسيرا، ودقق مجدي جاموس مندوب الصليب الأحمر بأوراق الأهالي وتصاريحهم، بعد أن ارتدى قماشا أبيض يحمل شعارا مخططا بالأحمر، ويكشف هوية المنظمة الدولية. لمع القماش فوق قميصه قبل بدء الخطوات المهنية الخاصة بفحص الأوراق، والسماح للحافلة بالمغادرة. قطعتْ العجلات الطريق المتعرج والضيق بسرعة، لغياب حركة المرور المزدحم في الصباح الباكر، فوق الشارع الحيوي الذي يربط بين نابلس وطولكرم. وقبيل السابعة حطتْ الحافلة المتوسطة الحجم بجوار بلدة ارتاح وقرب معبر الطيبة العسكري. كان العمال يتسابقون في الممرات الحديدية المعقدة للمعبر في طريقهم إلى اشغالهم داخل فلسطين المحتلة، فيما يتحرك عدد كبير من الشاحنات لنقل البضائع من الجانب الإسرائيلي: ماذا تنقل هذه الشاحنات؟ ما حجم التجارة التي ينسجها بعض تجار الضفة مع الجانب الإسرائيلي؟ لماذا تسحق العجلات الضخمة كل المحاولات الشعبية المتواضعة لمقاطعة بضائع الاحتلال؟ هل "غفل" اتفاق باريس الاقتصادي الوضيع تدوين كل تفاصيل مرور بضائع الاحتلال إلى أسواقنا!؟
مع اقتراب الثامنة صباحا، قطع معظم العمال الحاجز إلى الجانب المحتل الآخر، وتحركت الحافلة باتجاه أطراف المعبر. قطعنا مسافة قصيرة تحت صياحات مرتفعة لبائعي الفلافل والخبز والمعلبات والسجائر والقهوة والعصائر، وغيرها من المواد اليومية التي يتزود بها العمال في طريقهم لأماكن عملهم. عبرنا في طريق ضيق وملتو بزاويا حادة ومسيج بالحديد، ويتراكم في أسفله كميات هائلة من أعقاب سجائر "البروليتاريا" والعلب الفارغة وأكياس المكسرات والبلاستيك والدخان، بدت الزبالة في الجانب الفلسطيني وكأنها لم تنظف يوما منذ اتفاق أوسلو وقبل افتتاح المعبر!. دقق جهاز "أمن" الاحتلال بالتصاريح والبطاقات الشخصية، وفتح وأغلق عددا من الأبواب الالكترونية، قبل أن يسمح لنا بالمرور إلى ساحة واسعة تكتظ بعمال مسحوقين، انتظارا لحافلة "الصليب". انتظرنا تحت شمس حارقة ثلاث ساعات لوصول الحافلة، قادمة من حاجز قلقيلية العسكري، "يخطفُ" مقاعدها مجموعة من أهالي الأسرى وذوي معتقلين جنائيين. أثناء الانتظار الطويل برفقة مندوب آخر للصليب الأحمر، اندلع نقاش حاد بين امرأة متماسكة والمندوب الدولي، حول جدوى انتظار أهالي الأسرى للانتهاء من زيارة ذوي المساجين المدنيين الذين يرافقونهم في الحافلة بتعليمات من الصليب الأحمر، الذي يوفر خدمة النقل لذوي المساجين. رفض أسرى الحرية منذ وقت بعيد زياراتهم بالتزامن مع زيارة "المدنيين" في نفس القاعة، فاستجابت إدارة السجون لطلبهم، ووضعت زيارة ذوي المحكومين جنائيا في جدول خاص، وأدرجتهم بنهاية زيارة الأسرى، الأمر الذي بات يجبر الأهالي وحافلة الصليب على الانتظار الطويل حتى تفرغ زيارة "المدنيين". لم أكن على معرفة بتفاصيل الموضوع الذي اثارته المرأة بكل صراحة وجرأة، طالبة من الصليب الأحمر توفير حافلة منفصلة لنقل ذوي المحكومين الجنائيين.
وصلتْ الحافلة بعد العاشرة صباحا تحمل على مقاعدها مجموعة من ذوي الأسرى وثلاث عائلات "مدنية". غادرتْ سريعا واجتازت أطراف مدينة الطيبة، ثم دخلتْ بلدة قلنسوة في طرق سريعة تكتظ بالسيارات والحركة نحو معتقل "هداريم". عبرتْ الحافلة بجوار سجن بيت ليد أو ما يعرف بإسم "كفار يونا". أشار والدي للسجن وسرد ذكرياته القديمة لزيارة ابن شقيقته الأسير سامي الكعبي مطلع السبعينيات. استعدتُ أيضا من ذاكرة فتى يافع مشاهد زيارتي لابن عمتي في سجن بيت ليد ثم معتقلي بئر السبع ونابلس القديم. قضى الأسير سامي ثماني سنوات في سجون الاحتلال، متنقلا من سجن إلى آخر منذ آب 1967 وحتى خريف 1974 قبل ابعاده قسرا إلى الأردن، ثم إلى العراق التي أحبها وأقام فيها طوال حياته القصيرة. تزوج عطاف ابنة عمه وأنجب منها خمسة أبناء قبل وفاته بحادث طرق بين بغداد وعمان، وقبل ثلاث سنوات من غزو قوات الاحتلال الاميركية لبلاد الرافدين التي عشقها. ثمة مسافة قصيرة جدا على الأرض تربط بين زنزانة عاصم في "هداريم" وزنزانة سامي في "بيت ليد"، ولكنها بعيدة جدا بالقياس الزمني..ومتلاصقة جدا إلى درجة التوحد في مسيرة المقاومة المسلحة ضد المحتل.
اطفأ السائق محرك حافلته في بوابة المعتقل الكبير بعد نصف ساعة من هدير عجلاتها، مشيرا إلى مدخل الزوار. وقف حارس أمني يفتش بأجهزته الحقائب والملابس والجيوب، جلسنا على مقاعد كثيرة تمتد بين طاقتين لتسجيل زوار سجني "هداريم" و "ريمونيم"، فيما غادرتْ العائلات الثلاث، التي رافقتنا بالحافلة، سيرا على الأقدام إلى سجن أوفتيك لزيارة المساجين المدنيين. يقع "أوفتيك" بجوار معتقل "هشارون" ليكتمل بذلك المربع "الذهبي" لسجون الاحتلال الأربعة، في بقعة واحدة خطفها المستوطنون من أراضي الطيرة الفلسطينية العربية، وزرعوها بالأسلاك الشائكة والحديد، والممرات الفاصلة المكهربة، وكاميرات المراقبة وكلاب الحراسة.
للكبرياء إطلالة خلف الأسلاك!
ومع انتصاف النهار بالضبط، هبطتُ عددا من درجات الأرصفة الحمراء الممتدة طويلا في ممر ضيق تحاصره الأسلاك الشائكة في كل اتجاه، حرصتُ على السير بخطى بطيئة برفقة والدي خلف مجموعة من ذوي الأسرى بينهم وائل داود. عبرتْ النساء غرفة تفتيش منفردة، ثم اجتاز الرجال الستة غرفة تفتيش أخرى، وعبر الجميع ثماني بوابات قبل وصولهم الزجاج البارد الذي يفصل بين الأسرى وذويهم؛ وكلما مررتُ بهذه البوابات، وهي نادرة على كل حال، أشعرُ أن كل مستوطن في فلسطين المحتلة يحمل بجانب سلاحه مفتاحا على عنقه للبوابات الهائلة، ويستمتع ناصتا للمفاتيح تدور فيها، كاشفا عن حالة مرضية تفتك به، وتشي بأسرار خوفه التاريخي من كل شيء!. بانتظار وصول عاصم إلى شباك الزيارة، قادما من خلف بوابات لا حصر لها، طَرق دماغي المنهك هذا السؤال المباغت: إلى متى سيصمد الحارس المسلح بالنار والمفاتيح أيضا على بوابات الفصل العنصري الهائلة؟ هل يُشبع جوعه الهستيري خمسين سنة أخرى من التعذيب للضحية؟ أم هل شارف "الحارس" على النهاية؟
أطل عاصم من خلف زجاج شفاف بكبرياء وبقامتة المرتفعة، تجاوز كل الأبواب المغلقة للسجان، ثم خطف قبلة ترحيب بأصابعه اليمنى وألصقها في منتصف الزجاج البارد، فأشتعل قلبي بالنار. بريق في العينين رافق ابتسامته الساحرة أثناء سؤاله عن تعب رحلتنا من المخيم إلى معتقل، وسأل عن الوالدة وفرحه بلقائها بعد طول غياب، سأل كثيرا عن كل شيء على وقع الابتسامة الساحرة، ثم أجاب عن سؤالي المتعلق بالإضراب عن الطعام الذي خاضه طوال تسعة وعشرين يوما مع رفاق الكفاح، لتحرير قادة من المناضلين المعزولين في زنازين انفرادية معتمة:"تأكدنا بأننا كنا على حق عندما انتصرنا على السجان، وانتزعنا نخبة متميزة من المناضلين، وقد عادوا إلينا من العزل الانفرادي القاتل. الأسير القائد أحمد سعدات المحكوم بالسجن الفعلي ثلاثين عاما، وقد عاش معزولا منذ ثلاث سنوات ولم يلتق أحدا، أصبح حاليا بجوار سريري في غرفة واحدة، وألمسُ عن قرب عمق مناضل صلب خَبَر المعتقلات منذ نعومة أظافره في نهاية الستينيات، وأحسُ بثورية رفيق في التعامل بمستوى عال ووعي عميق، مع تفاصيل الحياة اليومية للرفاق والأسرى في المعتقل. الأسير إبراهيم حامد لم يصافح أحدا طوال ست سنوات منذ اعتقاله العام 2006، ولم يلتق بزوجته ونجله علي لابعادهما قسرا إلى الأردن، فيما عاش الأسير محمود عيسى من القدس أكثر من عشر سنوات في العزل الانفرادي. كانت لحظة اللقاء بهم تحلق في السماء وتفوق وصف معنى الانتصار على السجان".
خاض عاصم خلال عشر سنوات من حكم بالسجن الفعلي ثماني عشرة سنة بتهمة المقاومة المسلحة، أربعة إضرابات طويلة عن الطعام، لم يشغله سوى صمود الأسرى الاشبال في الزنازين المظلمة، وقدرتهم على مواجهة موجة التخويف التي يمارسها "أطباء" السجن بصورة مبرمجة، تحت يافطة أن الإضراب يعطل الكلى في الجسم، ويفتك بالأعضاء تدريجيا واحدا تلو الآخر..لكن قامة "الصغار" حلقت في السماء وانتصرت بحكمتها وشجاعتها على فقر نضج تجربة "الكبار" في مصلحة السجون. أقلع عاصم منذ وقت طويل عن السجائر، وحرص على ممارسة الرياضة المنتظمة. يتابع بشغف تعلم اللغة العبرية، وسجل في احدى جامعات غزة المهتمة بالدراسة الجامعية للأسرى، وطالب بكتابين أكاديميين: فن الكتابة والتعبير وتاريخ الدولة البيزنطية.
مر وقت الزيارة خطفا، بدا وكأنه أجزاء مسحورة من دقائق تقفز بين سماعتي هاتف على طرفي زجاج بليد، وتحت يافطة علنية على الجدار تحذر الزائرين بوقاحة مفرطة: المكالمة مسجلة. تأملتُ التحذير وتساءلت في سري: كيف يمكن تسجيل مكالمة تجري بين جهازي هاتف قديم وبدائي ورديء التوصيل، ويخلط الصوت البشري بتشويش مقصود للجهاز، فيضطر الزائر لتكرار طرح السؤال، لعله يخطف جواب الطرف الآخر الملاصق بوضوح. كل شيء يعمل بتقنية "أمنية" عالية، باستثناء الهواتف البالية التي تحاصر الحوار بين الأسير وذويه بتشويش مبرمج!؟
مع انتهاء الوقت المحدد، أغلقتْ إدارة السجن الهواتف ولم نعد نسمع أصوات الأسرى، راقبتُ لحظات وداعهم بالأيدي. وقفتُ للحظات بجانب الزائر وائل لوداع شقيقه محمد داود، الذي بدا في أواسط العمر، متماسكا بشعر رأس حليق ونظرة أمل تمتزج بالعزيمة. في ممر المغادرة روى وائل أن شقيقه محكوم بالسجن المؤبد منذ العام 1987، وقضى حتى الآن 25 سنة. فشلت صفقات التبادل مع الاحتلال بادراجه في قوائمها لرفض إدارة السجون تحريره، ولا زال متماسكا يترقب لحظة تحرره من الأسر برفقة 120 أسيرا معتقلا قبل اتفاق أوسلو العام 1993، سيء الصيت والسمعة، ووقعته منظمة التحرير مع الكيان الإسرائيلي الذي ابتلع بموجبه أرض الضفة وباطنها وسمائها.
طال الانتظار تحت أشعة الشمس، بعد قضاء ساعة في ظل شجرة برتقال في بيارة واسعة ومجاورة لجدار السجن. أنهى ذوو الأسرى زيارتهم، وباتوا ينتظرون بفارغ صبر وصول ذوى المساجين المدنيين. عقارب الساعة تجاوزت الرابعة عصرا، ولم يظهر مؤشرات على انتهاء الزيارة، فازداد الغضب حدة.
15 ساعة انتظارا لفرح خاطف
قبل الخامسة عصرا، تحركتْ الحافلة باتجاه معبر الطيبة، غادر الركاب مقاعدهم قبل أن تتوجه بما تبقى من زوار إلى معبر قلقيلية. إجراءات أقل صرامة أثناء مغادرة الحاجز العسكري. حجزتْ المجندة التصريح المنتهي للزيارة وأعادتْ بطاقتي الشخصية، وهرولتُ بجوار أعداد كبيرة من العمال المسحوقين إلى خارج المعبر المسكون بالحديد، وأكوام الزبالة، وبائعي الوجبات السريعة. تحركتْ الحافلة الصغيرة نحو أطراف طولكرم في طريقها إلى نابلس، تشق بضوئها المتواضع عتمة المساء التي تلف الطريق الضيق والمكتظ بالسيارات. قطع حاجز حوارة العسكري الطريق أمام السيارات المتجهة إلى رام الله، وصمتُ مع الركاب الستة تحت قذائف غاضبة أطلقها السائق بحق الاحتلال وحواجزه "المزاجية"!. انتظرنا قسريا وقتا طويلا قبل أن ينطلق السائق وهو يلتهم بعجلاته الأرض تعويضا عن التوقف الإجباري. في الثامنة مساء وصلنا بأمان إلى دوار المنارة. خمس عشرة ساعة من السفر والانتظار والترقب والتفتيش والغضب والحزن والألم والقهر، تحطمت فوق دقائق خاطفة من فرح راهن وأمل قادم، بلقاء شقيق يعلو فوق جراحه ويطلُ بقامة عالية تزهو بالكرامة، وعينيْن تشعان بالحرية وقلب يصر على الإنتصار.
رام الله
bfeature2000@yahoo.com