شهيداً شهيداً شهيداً..- احمد دحبور
مرت بنا يوم أمس، الذكرى الثامنة لرحيل الرجل الذي جعل فلسطين من جملة اسمائه، فهو ياسر عرفات، وابو عمار، والوالد، والختيار، وابو الوطنية الفلسطينية، الى آخر المسلسل الذي لا يعرف انتهاء، فقد اصبح هذا الرجل - الظاهرة جزءا من الذاكرة الوطنية، وعنوان لحظة نوعية في تاريخنا الحديث..
ها أنذا أحدق الى صورة لي معه، كنا في عدن.. وكم من العواصم طفناها معه وهو يحمل ذاك العبء الفريد من نوعه، إذ ليس ذاك العبء غير شعب كامل فتح عينيه على النكبة ففتح عليها النار.. وبين الكثيرين الذين حملوا هذا العبء، كان ياسر عرفات هو القائد النوعي الذي لا يوجد كادر في الثورة الفلسطينية لم يأخذ صورة معه. لا لأنه شغوف بالذكريات وبكل ما يبقي السؤال مشرعا وحسب، بل لأنه على المستوى الانساني كان مترعا بفكرة التواصل مع شعبه حتى اصبح رمز الرموز في المسيرة الفلسطينية المعاصرة..
وأكاد أشعر باليأس الجميل، إذا جاز التعبير، من أن تكون هذه المناسبة قادرة على أن تتيح لي جديداً أضيفه الى صورته المطبوعة في القلوب، سواء أكانت تلك الصورة تخص اداءه السياسي ام سلوكه الشخصي معنا، نحن الاجيال المتعاقبة التي مرت في حياته او مر في حياتها.. فقد حفظناه عن ظهر قلب حتى لا يكاد أحد يضيف الى صورته ملمحاً من ملامحه التي رسخت في الوعي والذاكرة والمشاعر العامة..
وكثيرا ما كان يخطر لي، كما يخطر لغيري بالتأكيد، سؤال بسيط حول فكرة القائد - الرمز، وكيف تتشكل، وسر صمود هذه الصورة للزمن.. فقد بدأ حياته السياسية، كما قد نعلم جميعا، في اتحاد الطلبة، إلا ان نداء عميقاً كان يصل اليه من عمق الجرح التاريخي، وكان هذا النداء يقول: يا فلسطين.. فيجيب لا بالكلام، بل ببناء المؤسسة، كنا شعبا يتيما ملقى على قارعة التاريخ. فلا حركة وطنية تحمل بصماتنا، ولا وضوح في الطريق حتى الى الحلم.. وبدأ النسج على نول الهوية والخصوصية الوطنية، واذا كانت القطبة الاولى في الثوب هي حركة الطلبة، فما العمل حتى تتحول القطبة الى زي وطني يلبس روحاً وطنية تدل على مسار وطني؟ وهكذا امكن ايجاد السؤال الذي تحول الى وطن، بل لنقل انه استعاد الوطن من الملفات المتراكمة، فكانت فتح فاتحة النهر الذي تدفق حتى حمل في امواجه بشرا واحلاما ومسيرة شعبية.. هل كان ياسر عرفات واصحابه وهم يتسللون في انصاف الليالي الى مواعيد اجتماعاتهم الاولى يدرون انهم يسهمون من حيث يدرون ولا يدرون في كتابة صفحة نوعية من التاريخ المعاصر؟
تجرأت عليه بتشجيع منه مرة، فسألته ما اذا كان قد شغله أي همّ من هموم الدنيا غير السياسة.. فضحك وربت على كتفي قائلا: اذا كانت السياسة مقترنة بفلسطين فلا اعرف لي سميرا او عزيزا او شاغلا قبلها، واذا كان علماء الاجتماع يصفون الانسان في مرحلة من نشوئه بأنه حيوان ناطق، فلعل الفلسطيني هو ذلك الحيوان السياسي على ان نفهم كينونة الحيوان المقصود من حيث هو ابن الحياة وصانعها..
وكان ياسر عرفات ابن هذه الحياة.. ربما حرم نفسه من اكثر مسرّاتها لفائدة المسرة الوحيدة التي ملأت عليه حضوره واعطته معنى وجوده.. انه فلسطيني ينتمي الى شعب ينتمي الى قضية تنتمي الى الحرية التي هي اسمى معاني الانسانية..
كان ذا قلب من المطاط من حيث استيعابه للمفاجآت حتى كاد ينحي مشاعره الفردية جانبا، لصالح مشروعه العام.. فقد تحمل من جور بعض الحكام العرب ما تنوء به الجبال، ولم تفارق الابتسامة الاستفزازية شفتيه، فهو الذي يبوس ما لا يسمى من فمه حتى يأخذ حاجته منه، لكنه وهو يطيل باله ويوسع أفقه كان يردد جملته الخالدة: ليس فينا، وليس منا، وليس بيننا من يفرط بحبة من تراب القدس.. وحين قالت له مادلين اولبرايت في حضرة كلينتون انك تتحدى رئيس اكبر دولة في العالم و هذا خطير، ادرك المعنى الخفي لهذا الكلام فقال: يريدونني اسيرا او قتيلا او طريداً وانا اقول: شهيدا شهيدا شهيدا..
ذلكم هو ابو الوطنية الفلسطينية، مجسد الهوية وهو قابض على الجمر.. كان يتوقع ويرى ان يكون شهيدا شهيدا شهيدا فيكرر على مسامع الاجيال وملء وعي شعبه ان شبلا او زهرة من فلسطين سيحمل او تحمل شعلة تضيء القدس باسوارها وكنائسها ومآذنها..
حمل البندقية في يد، وغصن الزيتون في يد، وابتسامة المتفائل التاريخي في قسمات الوجه، وآمال الفلسطينيين جميعا لا في القلب وحده بل في كل خلجة من كينونته التي صارت علامة فارقة لفلسطين.
- أنت من أين؟
- أنا من ياسر عرفات.. أليس ياسر عرفات من اسماء فلسطين؟