سيف الدين صادق: من النفق الى السماء- عدلي صادق
تقصدتهُ فجر أمس، طائرة حرب استراتيجية ثقيلة، فأزهقت روحه الخفيفة وغيّبت حضوره المتواضع. فـ «سيف» هو واحد ممن تتكثف في حكايات كثيرين منهم، معاني مقاومة الحرب القذرة التي يشنها المحتلون على مهاجع نومنا!
في واقع الحصار الذي يزدحم بوقائع القصف الفجائي الغادر المبرمج، بين الفينة والأخرى؛ اختط «سيف» لنفسه طريقاً في وُجهة المقاومة. وهو شاب من الشرطة الفلسطينية، كنت أخذته بنفسي لكي يتدرب على حفظ النظام وحركة المرور. وعندما أصبح بلا مهام عمل يومية، وباتت غزة مخدة الدبابيس، التي يغرس فيها المحتلون في كل يوم قنبلة؛ أخذه غضبه من عربدة محتلي بلادنا، الى دروب التحدي، وهي مقدّرة على الأحرار، مهما كان الرجحان في ميزان القوى هائلاً لصالح العدو. فالفلسطينيون لا يرفعون الراية البيضاء تسليماً، حتى إن ظل حال الرجحان قائماً لمئة سنة!
لم يكتف «سيف» بالطريق الذي اختار. ففي ظروف غزة، تتنوع أشكال المجاهدة وتتعدد المسالك. وفي سويعات التهدئة، كان يضع الشاب يده في عالم الأنفاق، وهو عالم يختلط فيه الحميد بالخبيث. فصائل مقاومة، أرباب أعمال وتجارة، وعابرون للعوائق ومتخطو انسدادات الحدود وبعضهم عرائس في أماسي الزفاف. عالم يسعف المقاوم بشيء من عدته، وتصطخب فيه المقاصد والغايات. يطرد فيه القوي الضعيف أو يأكله كسمكة صغيرة. لم يكن «سيف» يدرك هذه المعادلة الى أقصاها، مثلما أدرك أقصى النفق. اقترض لكي يحفر، واقترض للتشغيل، ثم حاصرته استحقاقات السداد، بينما أبوه الذي يغالب شللاً في أطرافه، لا يطيق اختلاط أنينه بتحرشات الأسماك في مياه متوحشة. كان «سيف» يتطلع الى سلاح وطعام وحليب أطفال للصغار، يهزم بها حصاراً ظالماً. غادر الى القاهرة، لكي يقيم فيها بعد أن يتحصل على الجنسية المصرية بشفاعة تشابك عائلي مع مصر. حصل على الجنسية، لكنه لم يطق الحياة خارج غزة فعاد. فلا بديل للوطن، مهما كانت مصائره، ولا تغيير في القرار: إننا باقون على أرضنا!
من غيهب النفق، خرج ليفتش عن طريق الى ضوء الجوار. غير أن كل آفاق الدنيا لا تنتج ضوءاً يضاهي بصيص الأمل في بلادنا. لكن فاتورة الأمل والأفق والضوء في وطننا، أفدح وأكثر استحقاقاً بكثير، من فواتير الإضاءة وأكلاف الحياة. ربما الحياة نفسها، تكاد لا تغطيها أحياناً، والعذاب مُستحّقٌ في كل الأحيان. الناس ترشف الصبر بكثير من الصبر، لكنها تباهي بشبابها في مصارع العِز، وعند الموت، تقصِّر المراثي فلا تتجاوز قيمة الراحلين!
كان طفلاً يبحث عن شيء بعينين عاشقتين. كلما حاولوا أخذنا الى ليل حالك، ازددنا تشبثاً بنهارنا. وكم في تراب فلسطين من شهداء، يضطجعون في قبورهم المبجّلة.
حصار وعدوان، أنزلا الشُرطي الذي كانه الشاب، الى النفق، ثم لفظة النفق فطفق «سيف» يفتش لنفسه عن أفق رحبْ. عاد الى النفق ومن النفق زائراً وعابراً. صعد الى السطح، امتشق سلاحاً أطول من قامته الطويلة، استأنس به حين رآه حجراً من سجّيل. قاوم به، ثم ارتقى الى السماء!
www.adlisadek.net
adlishaban@hotmail.com