رقصة على نشيد قادم- خيري منصور
هناك شرط واحد على الأقل لمن يريد الكتابة بحياد وموضوعية عن التصويت الأممي لدولة فلسطين كمراقب وليس كعضو فاعل، هو ألا يكون فلسطينياً، لأن الفلسطيني سواء اعترف أو لم يعترف، يحمل في ذاكرته الموشومة بدم ذويه، جرحاً نازفاً لا يقبل التضميد، إضافة إلى شعور بالنرجسية القومية المصابة في الصميم . لهذا فهو لن يجد المعادل الموضوعي لانفعاله لحظة التصويت، خصوصاً وهو يرى علم بلاده والمقعد المخصص لها في بيت الأمم بعد خمسة وستين عاماً من التشرد والمقاومة ومكابدة شتى صنوف الشقاء . إن هذه الفترة التي تجاوزت الستة عقود هي عمر رجال كانوا أطفالاً أو في بطون أمهاتهم العام 1948 وهم الآن أجداد وآباء يحدقون إلى عيون أبنائهم وأحفادهم فيلوح في عيونهم رغم اغروراقها بالدمع، فرح ناقص وعلامة استفهام بنفسجية هي: لماذا لا تكون الدولة عضواً كسائر الدول، رغم أن الثمن بل المهر المدفوع من أجل زفافها الدامي، يستحق جمهورية لا “كومونة” أو سلطة فقط؟
نعرف الحجم الحقيقي لهذا المنجز الفلسطيني في زمن عسير، كان الفراق لا الوفاق هو سمة أيامه العجاف بين الشقيقين اللذين اقتسما خيمة ورصاصة ورغيفاً وحلماً ثم تحولا إلى لدودين! ونعرف أيضاً أن اللاجئين من أبناء المناطق المحتلة عالام 1948 وفي زمن القرش الانتدابي المثقوب، يشعرون بأن مبتدأ الدولة بلا خبر، وكأنها بالفعل شبه دولة إذا لم تشملهم وتضمن لهم حق العودة قبل أي شيء .
إن التصويت بأكثرية حاسمة لدولة فاتيكانية ممنوعة من السلاح والعضوية ورفع أعلامها على أطلال المستوطنات، يرضي نفوساً بها مخزون هائل من الرجاء والألم، ولا بد للمرء ألا يكون فلسطينياً كي يواصل تسجيل نقاط الضعف في هذا المنجز الوطني الناقص .
لقد كرر أبو مازن عبارة: لهذا نحن هنا مرات عدة، مثلما كرر ملايين الفلسطينيين أيضاً عبارة أخرى هي: لماذا نحن هناك؟
البعض يرون أن التصويت لفلسطين كان الوجه الآخر للتصويت ضد الولايات المتحدة، فهي هذه المرة بلا “فيتو”، لكنها تملك من الضغوط والترغيب والترهيب لدول العالم الأشد فقراً ما يتيح لها أن تملي إرادة وتدفع هؤلاء إلى أحد خيارين: إما الامتناع عن التصويت وهو أهون الشرين، وإما التصويت المضاد، لكن ما لا يحتاج إليه المرء كي لا يكون فلسطينياً ويكون موضوعياً، هو قراءة خطاب السفير “الإسرائيلي” في الأمم المتحدة الذي كان من ألفه إلى يائه مجرد ردود أفعال استباقية على الخطاب الفلسطيني . وكم كان مثيراً للسخرية في إلحاحه الكوميدي لا الدرامي، على يهودية دولته، وكأن هناك بالمقابل ديانة فلسطينية، ففلسطين جزء من جسم عربي وإسلامي وليس لها دين خاص بها كي يصبح مطلب يهودية الدولة منطقياً .
إن خطاب الضحية هو الأبلغ حتى لو لم يكن مرصّعاً بالمصطلحات ومهارة اصطناع التراجيديا والدموع التماسيحية، وبالمقابل فإن خطاب السارق القاتل سيكون بالضرورة طارداً لكل أشكال البلاغة، لأن ما يقطر من حروفه ليس دماً أو دمعاً، بل هو سمّ أحياناً يُقدم من خلال إشعاع نووي وأحياناً يُدَس في الدسم .
لم تكن الرقصة الفلسطينية في مدن فلسطين وقراها على إيقاع ذلك النشيد الناقص الذي يُعزف لدولة مراقبة، بل كانت الرقصة تعبيراً عن وجع معتّق في جرار الزيت والذاكرة وقبور الشهداء، إنها رقصة وطنية على إيقاع نشيد قادم وفيها من الحلم أكثر مما فيها من تناغم مع الواقع، وأهم الدلالات الرمزية لهذا الحدث هو التفات عشرة ملايين فلسطيني في لحظة واحدة نحو مكان محدد