الاستبداد بأسماء مستعارة- خيري منصور
ما من شجر مشى في جنازة، أو تظاهر بسبب التصحّر أو سعى إلى الماء من فرط الظمأ، لأن إقامته الجبرية فوق جذوره لا تتيح له هذه الحرية، والشجرة العملاقة التي سقطت في مصر فقتلت شخصاً وأصابت عشرين بالجراح لا بد أنها حاولت ذلك، لتعلن على الملأ أن نهر النيل لن يُعَبَّأَ في زجاجات أو جرار .
قد يكون بعض المتظاهرين تسلقوا جذع الشجرة فناءت بحمولتهم، وقد يكون احتجاجها على ما تسمع وما لا تقوى عليه من الردود، ذلك أنّ شعار الإسقاط شمل كل شيء خلال أقل من عامين، وكأن جاذبية الأرض استدعت هي الأخرى كل احتياطاتها، فمصر الآن بشجونها بلا نهاية وكذلك شعابها، وهناك من يتذكرون ما قاله الراحل عمر سليمان عن الديمقراطية المبكرة، وشروطها وسبل إنضاجها مقابل آخرين يسخرون من هذه المقولة ويرون أن البلاد أهل لها . أما الشعارات التي تعود في كل حراك أو اعتصام فهي شجب الاحتكار وفقه الاستحواذ الذي يفضي بالضرورة إلى الإقصاء، ولا ندري مَنْ يقصي مَنْ في هذه المباراة غير الرياضية التي تحدث بالحجارة والكلام، وأحياناً يكون للرصاص فيها مكان .
ما لدى مصر من الأزمات ومخزون الألم الاستراتيجي، تعجز كل الحواسيب الذكية عن إحصائه، سواء تعلق الأمر بالفقر أو المديونيات أو الانتشار الوبائي للعشوائيات، لهذا فهي لا تملك من فائض الرفاهية ما يتيح لها أن تبقى أعواماً في الميادين والشوارع، فالبطالة في تفاقم، وكذلك تصعيد الخلاف إلى نزاع، والنزاع لابد إذا تصاعدت وتيرته أن ينتهي إلى صدام لا تحمد عقباه .
فهل السبيل إلى الخروج من الأزمة هو قبول الأمر الواقع والتأقلم مع المستجدات سواء كانت دستورية أو ذات صلة بصلاحيات الرئيس؟ أو أن القرارات الرئاسية يمكن تجميدها ولو إلى حين كي يتاح للحوار أن يُدوِّر الزوايا الحادة ويجد القاسم المشترك الأعظم بين كل التيارات والاتجاهات مهما كان التباعد بينها؟
ما من خيار ثالث في سياق كهذا، حيث يتشبث كل طرف برأيه ويتعهد لأنصاره بعدم العودة عنه، خصوصاً عندما يرى أنصار الرئيس الذين خاطبهم على انفراد أمام قصر الاتحادية، أن ثلاثة تنازلات تكفي وأن تنازلاً رابعاً هو العودة عن القرارات الأخيرة سوف يذهب بهيبة الرئاسة . لكن أية مفاضلة بين هيبة أي كائن وبين سلامة الوطن، لابد أن تكون لمصلحة الوطن لأنه الأبقى وهو الذي تتذرع به كل الأطراف، لكنها سرعان ما تنفصل عنه لمصلحة حسابات هي في النهاية حسابات سياسية صغرى .
وقبل اندلاع هذا النزاع في مصر بأيام قليلة، ودعّت خمسون عائلة أطفالاً خرجوا من بيوتهم إلى المدرسة ولم يعودوا بحادث سير مروّع، وقبلها بأيام تصادم قطاران دون أن يزعم من كانوا يقودونهما بأنهم علمانيون مدنيون أو متدينون، لأن للحديد الهرم الذي أكله الصدأ هويةً واحدة .
لدى مصر ما يكفي ويفيض من الأزمات، وجياعها ومرضاها وأطفالها أولى من أي شيء بالرعاية والتنافس من أجل إنقاذهم .
لكن ما يحدث الآن هو قطيعة بين الشعار وما يجري تحته على الأرض، وتغيير اسم الفقر لا يغير من أحوال الفقراء، كما أن استبدال اسم الاستبداد لن يحوله إلى حرية وشراكة في صياغة المصير .
وإذا كانت شجرة عجوز عملاقة قد أودت بحياة شخص وجرحت عشرين، فإن النيل ذاته قد يفيض ولن يرضى في الألفية الثالثة بعروس أو أية رشاوى، لأن هناك محاولات لتغيير مجراه وبالتالي مصبه، وما دفعه المصريون على الأقل في العصر الحديث يؤهلهم لحياة أقل شقاء من هذه، ولديمقراطية أقل ارتهاناً، والأرجح أن هناك عشرات الملايين ممن يسمون حزب الكنبة أو الصامتين على وشك الصراخ: كفى فقراً وعذاباً وعشوائيات .
عن "الخليج"