لا أنهار في هذه اللوحات الميتة- خيري منصور
في قصة شهيرة لموباسان ثمة رسام فشل مرات عدة في بيع لوحة واحدة مما رسم ثم استعان برجل متخصص في تسويق البضائع، ولا علاقة له بالفن، لكن ذهنه التجاري تفتق عن موقف أثار دهشة صاحبه الفنان، فقد قال له إذا سئل من المتجولين في معرضه عن أية لوحة أن يجيب بسؤال استنكاري هو: أرأيت في حياتك نهراً؟ عندئذ سيضطر هذا المتحول في أروقة المعرض أن يدافع عن ثقافته كي لا يبدو جاهلاً، ويجيب: نعم فهمت الآن، والحقيقة أن اللوحة التجريدية التي رسمت جزافاً وبسكب زجاجة أصباغ على الورق لا نهر فيها ولا قطرة ماء واحدة .
ما يحدث الآن إعلامياً وفضائياً هو شيء شبيه بهذا، فثمة من يقولون كل شيء كي لا يقولوا شيئاً محدداً، واللغة الإمبراطورية شاسعة وتتسع لكل المجازات خصوصاً إذا كانت من طراز: أظن ذلك، أو ربما أو على الأرجح، إضافة إلى استخدام ضمائر مبهمة كتلك التي قال سارتر إن المجانين يكثرون من استخدامها لتصورهم أن هناك كائنات خفية تتربص بهم وتطاردهم .
لكن بعد كل هذا الدم وهذه الفوضى وهذا الدمار لن نجامل أحداً خشية اتهامنا بالجهل، وسنقول لمن يسألنا أرأيت في حياتك نهراً؟ أننا رأينا الأنهار كلها من المسيسبي والأمازون إلى النيل والفرات، لكن لوحتك الصماء لا نهر فيها ولا ماء .
الخطاب الجديد الملفق من نعم ولا على طريقة “لَعَمْ” لم يعد يحرجنا، ومن يضع قدماً في الجنة وأخرى في النار لن يظفر حتى بمنطقة الأعراف أو ما يسميه دانتي “اللمبو” بينهما، ومن يريدون إقناعنا بأنهم قادرون على أن يكونوا هنا وهناك في آن واحد هم حواة وأفاقون، ولن يصطادوا عصفورين أو حتى فراشتين بكلمة معسولة كاذبة، لأن الحيوانات والحشرات لا تخشى الفزاعة في الحقل بعد أن تختبرها وتعرف أنها مجرد خشبة، ويقول علماء الأحياء في أمريكا إن الذباب لم يعد يموت من ال “دي . دي . تي”، بعد أن تأقلم معه وأدمنه وأصبح يتغذى به ويسمن منه .
لكن ما يموت هو طائر الشحرور الذي يتغذى على هذا الذباب ولا يملك مناعة لمقاومة ما ترسب فيه من المبيدات .
من يكتب مجرد سطور نمل لإفساد بكارة الورقة البيضاء سنقول له إن صفحته مليئة بالنمل ولا يوجد فيها نهر أو ساقية، ومن يستعرض حزمة من المصطلحات الاستراتيجية والميتااستراتيجية والجيوسياسية في خطاب متلفز لمجرد الإثبات أنه بالفعل خبير استراتيجي، سنقول له: كفى لأننا خسرنا منذ عقدين ملايين البشر ودمرت البنى التحتية لعواصم عدة من وطننا وتشرد من تشرد لكن ما سمعناه كان مجرد هراء، لأن المهزوم في خمس حروب متعاقبة لا يحق له أن يقدم وصفات نموذجية للانتصار .
والاستراتيجي سواء كان خبيراً أو جنرالاً أو زعيماً يفكر بما سوف يحدث بعد عشرة أعوام ولا يعيش من وجبة إلى وجبة كالمتسولين، وتعليق الأجراس في أعناق القطط أو حتى الذئاب لا يحتاج إلى شجاعة نادرة، فالطفل الذي يلثغ باسمه هو الذي كشف عري الإمبراطور في قصة اندرسون، رغم أن البالغين كانوا يتنافسون في وصف ثيابه الأنيقة وصولجانه المزخرف .
كم من الموت والهلع والتشرد والفوضى نحتاج كي يكتمل نصاب التراجيديا التي تحولت بفضل التكرار إلى مهزلة!
فلا أنهار في هذه اللوحات الميتة ولا أنهار في هذا الخطاب المبهم ولا قطرة ماء واحدة في ماء الوجه عندما يصر صاحبه على إقناعنا بأن هناك ربيعاً بلا شجر، وشتاءً بلا غيوم وحرية بلا أحرار .