معركة ما بعد العدوان .. - د. مازن صافي
قصف عنيف .. وصلت الإشارة إصابتين في الطريق إلى المستشفى .. أخذنا استعدادنا نحن الفريق الطبي في المستشفى .. وصلت الحالتين .. شاب وسيدة .. كل فريق بدا بالتعامل مع حالة .. حالة الشاب كانت صعبة .. أما السيدة فقد وصلت مبتورة ساقها اليسرى من فوق الركبة ولم يتبق إلا قطع من الجِلد الممزق والمحترق .. وصلت شهيدة على بطش الاحتلال وجرائمه ..
إنهم جرحى الحرب وحكايات يرويها كل منا بطريقته .. بإحساسه ومشاعره وقدرته على التحمل وسط هذا الضغط الكبير .. كنا في ساحة المستشفى نتوقع قصفنا ، فالطائرات المجنونة لم تعد تميز .. وكل شيء فوق الأرض يعتبر بالنسبة لها مرمى .. ما يسقط مبرر .. هكذا الحرب من وجهة نظر المحتل المعتدي .. إصابات حرجة وصلت وفي غالبيتها كانت قاتلة .. إنه عدوان همجي استشهد فيه 175 مواطنا وجرح 1399 آخرون من بينهم 465 طفلا، علما أنّ بين الشهداء 34 طفلا و11 سيدة و19 مسنا، كما أن بينها 16 طفلا لم يبلغوا السنوات الخمس .. وهناك قرابة الستين جريحا تحولوا الى معاقين إعاقات مستمرة أي انه 20 % من الشهداء أطفال ، و 5 % من الجرحى تحولوا الى معاقين بدرجات مختلفة .. وحقيقة ان ما رأيناه وما سمعناه وما قرأنا عنه في هذه الحرب كان جنون احتلالي لا يمكن ان يصدقه العقل .. الموت فرض علينا كما الدمار كما العدوان نفسه .. عشرات العائلات تم قصفها ومنازل مكتظة بساكنيها تم تحويلها الى ركام مختلطة بأشلاء الشهداء ..
ما ذنب الطفولة البريئة في فلسطين ،وما ذنب المواطن الفلسطيني وما ذنبنا أن نتجرع هذا العذاب .. أي عالم هذا الذي يصمت طويلا وحين يتكلم يتحدث عن ردود أفعال وتوازن قوى وكلمات إنشائية .... ماذا هو ذنب تلك الطفلة التي كانت واقفة على شباك منزلها في الطابق الثالث ولحظتها شنت طائرات F16 غارة على أرض فارغة بجانب منزلها مما أدى إلى وقوعها من الطابق الثالث إلى الأرض بفعل شدة ضغط الهواء الذي أحدثه الصاروخ لحظة القصف والنتيجة ان هذه الطفلة البريئة أصيبت بنزيف في المخ وكسر في الجمجمة، أدخلت على أثرها إلى قسم العناية المركزة .. هذه الطفلة المتفوقة والمبدعة في دراستها والجميلة تحرم الآن من دراستها ، فهي لم تعد قادرة على الحركة أو الكلام .. ولم تعد قادرة على إكمال تعليمها .. الحرب لم تنته بعد .. والجرحى لازالوا يرقدون في المستشفيات والبعض منهم يتحولوا إلى معاقين والبعض يلتحق بقافلة الشهداء .. ولازال الاحتلال يهدد بحرب جديدة اشد قسوة وأكثر همجية ..
اليوم تبدأ معركة معالجة تداعيات هذه الحرب .. معالجة هؤلاء الجرحى والحالات الإنسانية المختلفة والمتنوعة وكذلك الدمار الذي عمَّ قطاع غزة ، وأيضا الخسائر الاقتصادية .. وبحاجة أيضا إلى ورشات عمل مختلفة لمعالجة الآثار النفسية لهذه الحرب على الأطفال والكبار ومختلف شرائح الجمهور الفلسطيني .. الحرب لم تنته بعد والمعركة بدأت الآن .. وهذا هو حالنا ونصيبنا ..