سيرة رجل اسمه "زوربا"- سعود البلوى
قد تصنع الصدف لحظات جميلة في حياتنا، لكنها تنتهي على الرغم منا؛ لأن النهايات أمر حتمي في حياتنا، ولهذا نسعى لتخليدها في الذاكرة، إلا أن الكتَّاب لا يكتفون بذلك، فالكاتب - بحسب (ماركيز) - يعيش ليروي.
كثير من الأشخاص نلتقيهم، ولكن لكونهم غير مؤثرين في حياتنا ما نلبث أن نوعز بلا وعي إلى الذاكرة لنسيانهم، وقد ننسى أننا التقيناهم، بل قد لا نتذكر أسماءهم لو قدِّر لنا أن نلتقيهم من جديد.
إلا أن هناك آخرين - وهم قلة - لا يمكن نسيانهم، بل على العكس هناك حرص لا واعٍ على إبقائهم أحياء في الذاكرة، بعمل فكري أو أدبي أو فني.
وهذا ما حدث مع الروائي اليوناني (نيكوس كازنتزاكس) في روايته الأشهر عالمياً (زوربا اليوناني) التي يشار إلى أنه التقى فعلاً ببطلها، وهو رجل يوناني من مقدونيا تعرف إليه صدفة في أحد المرافئ اليونانية وهو في طريقه إلى جزيرة كريت فنشأت بينهما صداقة حميمة مليئة بالتفاصيل والحوارات الإنسانية الوجودية.
الراوي في الرواية يجسد شخصية المؤلف نفسه، ويدعى (باسيل) وهو رجل مثقف وقارئ نهم، انهمك بالقراءة أثناء وجوده في ميناء (بيريه)، فانتبه إلى عيني رجل مجهول يتأبَّط صرَّة صغيرة، نحيل وطويل جداً، عيناه جاحظتان، في الخامسة والستين من العمر، وما أن التقت أنظارهما حتى سأله عن وجهته طالباً منه أن يأخذه معه، فسأله باسيل: ولماذا آخذك؟ فأجاب الرجل: ألا نستطيع أن نفعل شيئاً دون لماذا؟ من أجل لا شيء، أو خذني معك كطباخ. ذلك مدخل لأن يجلس الرجلان ويتحدثا طويلاً.
إنه (إليكسس زوربا). له أسماء متعددة، "مجرفة الفرن" بسبب طوله وجمجمته المسطحة كالكعكة، و"تمضية الوقت" لأنه كان يبيع بذر اليقطين المحمص.. لا مهنة محددة له. مهنته كل المهن: بالرأس واليد والرجل كما يقول. عمل كرئيس للعمال في منجم، لكنه فجأة قرر أن يعتدي بالضرب على صاحب العمل ويستقيل.
صرته تحوي مؤونة وثيابا والـ(سانتوري) وهي الآلة الموسيقية، سمعها لأول مرة حين كان في العشرينات من العمر في أحد أعياد قريته الواقعة على سفح جبل الأولمب. بقي لثلاثة أيام مهموماً لم يذق طعاماً ولا شراباً، وحين سأله والده ما به؟ أخبره بأنه يريد أن يتعلم عزف السانتوري. فعنَّفه: ألا تخجل؟ أأنت غجري؟ أتريد أن تكون عازفاً؟
زوربا ليس لديه حل وسط. ولا يرى قراراته إلا بالأبيض والأسود، ثمة ثائر، وفنان، ومحارب، وحرفي، وإنسان شهواني بوهيمي وآخر مرهف، في داخله. لم يستجب زوربا لوالده، بل أنفق كل ما ادخره من أجل الزواج لشراء الآلة الموسيقية التي عشقها، ورحل إلى (سالونيك) ولم يكن يملك قرشاً واحداً، فألقى بنفسه على قدمي العازف التركي (رجب أفندي) ليعلمه العزف دون أن يطلب منه نقوداً، فبقي لديه عاماً كاملاً حتى تعلم.
كان زوربا يرى في الموسيقى متنفساً لضيقه، وفي السانتوري مؤنساً لوحدته، يقول: "حين تسودُّ الدنيا في عينيّ، أو عندما أفلس، أعزف السانتوري فتتحسن حالي. وقد يحدثونني عندما أعزف، لكنني لا أسمع، وحتى إذا سمعت فإنني لا أستطيع الحديث".
هنا نمسك بالخيط الأول من خيوط شخصية زوربا؛ إنه رجل يركز في شيء واحد فقط: "كي تعزف السانتوري، لا بد أن يكون رأسك عند السانتوري لا في مكان آخر".
سُحر (باسيل) بحديثه، وأخبره أنه سيأتي معه، وطلب منه أن يعزف له، فقال: "أن أعمل لك، فلك ذلك. فأنا رجلك. لكن السانتوري شيء آخر". إن زوربا يعرف حدوده وحدود غيره، ولديه خبرة كبيرة في الأبعاد والمسافات الفاصلة بينه وبين الناس، ولذلك يؤكد: إن الحسابات الطيبة تخلق الأصدقاء الطيبين.
زوربا يعيش حاضره لكنه لا يهتم له كثيراً بما يحدث فيه، يقول عنه (باسيل): "إن الأحداث المعاصرة لم تكن سوى أمور قديمة في روح زوربا". ففي المركب المتجه إلى كريت جلس على لفافة حبال، مصغياً إلى جدل بين بعض الركاب، فتمتم باحتقار: أقمار قديمة!
كان زوربا المقدوني ينظر إلى كريت على أنها صديقة قديمة يعرفها حق المعرفة، هذا ما اكتشفه (باسيل) حين اقتربوا من كريت وسأله هل هي المرة الأولى التي يأتي فيها إلى كريت؟ أجابه بأنها لم تكن المرة الأولى، أتاها شاباً عام 1896 واندلعت فيها ثورة. وهو نادم على ماضيه الثوري المليء بالقتل، معتبراً أن كل ما مضى من حروب وقتل كان أمراً خارج سياق الإنسانية وقد اكتشفه متأخراً. "ما هذه الثورة؟ نلقي بأنفسنا على إنسان لم يفعل شيئاً ونعضّه، ونجدع أنفه، ونقطع أذنيه، ونبقر بطنه، وكل ذلك ونحن نطلب العون من الله... إنه لسر، سر كبير! إذن فلا بد من الجرائم والنذالات الكثيرة حتى تحل الحرية في هذا العالم!... إن هذا العالم سر وإن الإنسان فيه ليس سوى وحش كبير".