لست متشائماً- عباس بيضون
هناك من بدأوا يتذمرون من الربيع العربي، لم ينتظروا منه أن يحمل الفوضى التي أعقبته في البلدان التي أطلقته. لم ينتظروا منه أن يكون بداية صراع جديد بين القوى التي رغم انها حملته لم يحملها هو إلى السلطة بل رفع إليها قوى اسلامية لم يعرف عنها إيمان بالديموقراطية او نضال في سبيلها وبينها من لا يماري بالقول انها كفر، صراع بين القوى التي قامت به وتلك التي صارت في السلطة، المتذمرون يرون أنهم انخدعوا بهذا الربيع وانه خان نفسه، وانه يثبت مجدداً اننا شعوب مفلسة تفور لكن فورانها لا يعقب شيئا، ولا تلبث ان تعود إلى تقاعدها التاريخي وركودها وتقليدها الذي لا محل فيه للحرية، إلى تمرسها الطويل بالاستبداد. الربيع بالنسبة لهؤلاء أكذوبة لا أكثر وإذا أكدت شيئا فهو أننا لا نستحق ما ثرنا من أجله ولسنا مستعدين له ولا طاقة لنا عليه.
لست متشائماً، أريد أولا أن لا أجمل البلدان التي انتفضت في هذه التسمية الغامضة «الربيع العربي»، لا أريد أيضا أن أسوّي بينها. مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا، بلدان مختلفة متفاوتة. وإذا انتفضت في أوقات متقاربة الا ان هذا لا يجعلها واحدة، ولا يجعلنا ننسى ان لكل منها تاريخه وظروفه وبنيانه الاجتماعي والسياسي، وانها في ذلك تتفاوت وتفترق، وأن ما يحدث في كل بلد هو جواب على خصوصياتها وتفردها. قد تكون تسمية الربيع العربي مقبولة صحافيا، وقد تشير إلى تفاعل أكيد بين شعوبه، لكنها من ناحية أخرى لا تعني شيئاً. إذ لا يمكننا ان نجري على بلدان الربيع العربي تحليلا واحداً، كما لا يمكننا أن نسلكها في منظومة واحدة. ما أبعد ما بين اليمن وسوريا وما بين ليبيا ومصر، وما بين تونس والبحرين، هذه بيئات مختلفة وتواريخ متباعدة ومجتمعات متباينة وإذا جاز أن نضمها تحت إسم واحد، أيا يكن هذا الإسم، إلا أنها لا تجتمع في غير ذلك ولا يجوز أن نتناولها في السياق نفسه وبالتحليل ذاته.
لست متشائماً، من يظن أن الثورات نزهة، وأنها نقلة إلى النعيم وإلى السعادة، ينسى أن هذه الثورات تهز بنى هي نفسها من نصف قرن وأكثر أو أقل. لكنها عقود متطاولة ترسخت فيها وتكلست وانتخرت في الوقت نفسه، ولا يعني دمارها الا نوعاً من الخلاء السياسي القابل لأي ريح. لا يعني سوى الفوضى التي لن تنحسر الا بعد تجارب وتجارب. ينسى المتشائمون ان هذه الفوضى ليست مباغتة ولا غير منتظرة. انها بالتأكيد جزء من المخاض الذي لا بد منه ولا بد من خوضه للوصول شيئا فشيئا إلى بنى جديدة، وللوصول شيئاً فشيئاً إلى قواعد أخرى وعلاقات جديدة، أي للوصول إلى نظم ثانية.
لست متشائماً. ما حدث كان بكل المقاييس هزة أو زلزالاً ولا يتوقع من الهزات والزلازل أن تعقب إلا الخراب والعصف. ما حدث كان هذا الخراب، وما نحن فيه الآن هو هذا الخراب. ليس الخراب وحده ففي مخاضه وطواياه تتكون العناصر التي ستكون خميرة المستقبل، في مخاضه تتكون القوى الجديدة، في مخاضه بذرة التغيير وخميرته وبشائره. فالذي حدث قبل كل شيء أن بنى متأرثة منه سقطت أرضاً، ولن تندرس بالطبع قبل ان تتخبط طويلاً، لن تندرس قبل ان تقاوم وقبل أن تجابه، بل ستبقى في المخيال الشعبي طويلاً هي المرجع وستستعاد وتتكرر وهي تنحلّ وتضعف كثيراً أو قليلاً. لكن الخلاء الذي ستتركه وراءهما سيكون هو الحجة لأمور كثيرة. من يجدون أنفسهم بلا مصدر أو مرجع سيتحركون على هواهم، سيمضي وقت طويل وهذا الاضطراب في عزّه، سيمضي وقت طويل يكون فيه الاضطراب، فيما يبدو، أسوأ من أي نظام، بل سيتحسر كثيرون على أي نظام. لكن هذا لا يعني عودته فقد انهار وانهار بعد أن نخر طويلاً وبعد أن تآكل طويلاً وإذا سقط لن تقوم بعد له قائمة. إذا أسقط فلن تكون له قدرة على أن يستعيد أشده، لكنه عاش طويلاً وترسخ طويلاً لذا فإن زواله سيترك مكانه بلقعاً، زواله سيترك مكانه التزاحم والحشرة والاختناق والتساقط والفلتان. ذلك رهيب بالطبع وعلينا ان نحتمله كجزية تاريخية، فهو أيضاً نتيجة الحراك ونتيجة التفجر، فهذه القوى الراكدة المتقاعدة الراسبة منذ عقود بل قرون هبت، ولا بد أن تهب عاصفة راعدة. عصفها وهياجها الآن هما موازيان لتقاعدها وركودها السحيقين. لن يكون هبوبها الا بمقدار قعودها الأول. هذا الهبوب وذلك الهياج قد يكونان بمعنى آخر دخولاً في التاريخ فما خرجت منه هو لا تاريخية مزمنه. ما خرجت منه هو المكوث خارج الزمن وخارج العصر وخارج العالم. لقد دخلت التاريخ ولهذا ثمنه الدموي والعاصف. لقد دخلت التاريخ، وجدت لأول مرة شعوب في الساحة، ابتكرت شعوب لم تكن حاضرة منذ دهور. قامت شعوب ولهذا ثمنه ولا بد أن تكون الجزية ثقيلة هائلة.
صعد الاسلاميون، الاخوان المسلمون والنهضة وسواهما، إلى السلطة. هؤلاء لم يتربوا على الحرية ولم تكن يوما في خطاباتهم وقواميسهم. بل نحن لا نخطئ إذا قلنا أن أفكارهم عن الخلافة الراشدية قد تكون أقرب إلى الاستبداد. ثم ان الحرية، حرية التعبير والمعتقد قد تكون بالنسبة لهم كفراً، إذ لا حرية مع الشريعة ومع الأمر الإلهي. يبدو ذلك، لأول وهلة انتكاساً، لكن الاسلاميين صعدوا إلى السلطة كجزء من حراك اجتماعي حمل ايضا القوى المعارضة لهم، صعد الاسلاميون ووجدوا مقابلهم شارعاً حامياً. وجدوا مقابلهم قوى حقيقية. وجدوا أمامهم صراعاً غير معتاد ولا قبل للمجتمع به. الاسلاميون يوم كانوا مضطهدين كانوا هم الإسلام بالنسبة لشعوب مسلمة، يشكل الإسلام بالنسبة لها الوعد الحق بحسب طه حسين. اليوم يشكل الاسلاميون برنامجاً يستفز حتى المتدينين. برنامجاً ليست إلهيا، انه برنامج دنيوي ارضي سياسي، ما عادت مواجهة الاسلاميين مواجهة للإسلام، لقد تحولوا إلى فريق سياسي وبرنامجهم ليس كلمة الله انه مليء بالسياسة والأحابيل السياسية. في الشارع قوى فاعلة وعضوية واجتماعية ضد الإسلاميين لا ضد الاسلام. انه صراع سياسي وسيخوضه الاسلاميون على انه كذلك. لقد تحولوا إلى طرف سياسي وسيكون الصراع سياسياً. لم ندخل فقط التاريخ، بل دخلنا أيضا السياسة، من الآن سيكون الواقع والمصلحة مقياساً، من الآن سيكون الكلام السلفي كما هو سلفياً، أي التفاتاً إلى الماضي لا حساب فيه للحاضر أو المستقبل. سيكون الاسلاميون غير الإسلام، بل يمكن الرد عليهم بحجج إسلامية، لست متشائماً. إننا ببطء ندخل في السياسة. ثمة قوى تتحرك وتساجل ولا يمكن بعد إجبارها على التقاعد أو الكلام باسمها ونيابة عنها. لن يكون الاستبداد بعدُ دين السياسة الطبيعي، لست متشائماً إننا ندخل إلى التاريخ وإلى السياسة.
*كاتب لبناني