جميلة صيدم: رحلة بحث عن وطن مخطوف- ح 1
غيب الموت في رام الله، السبت (30 تموز) جميلة صيدم أم صبري (64 سنة) بعد سنوات حافلة بالكفاح الوطني والمنفى القسري حتى عودتها عقب توقيع اتفاقية أوسلو العام 1993. طاقم شؤون المرأة وَثَق تجربتها وأصدرها في كتاب "رائدات من بلدي" العام 2006 .
البروفايل الخاص بالراحلة وفق شهادتها التي تتناول يوميات حياتها، ينشر النص على عدة حلقات:
1
كيف عاشت جميلة صيدم طفولتها وطبيعة الظروف التي عصفت بها منذ استشهاد زوجها حتى انتخابها نائبا في أول مجلس تشريعي ؟ نوع التجارب التي خبرتها وأين تبحر بها سفينة الحياة؟ أسئلة عديدة داهمتنا أثناء صعود درجات سلم مكتبها بالطابق الرابع في عمارة مطر الكائنة غرب مخيم البريج وسط قطاع غزة .
شعرنا لحظة دخولنا مكتب "أم صبري" أن مهمتنا ستكون صعبة في سبر غور امرأة غارقة في هموم ومشاكل أبناء شعبها، أبرزت جدران المكتب صورها أثناء افتتاح المشاريع أو المشاركة في مناسبات مختلفة، فيما تضمنت مجلة حائط جانبية قصاصات من صحف محلية توثق نشاطاتها بمجالات متعددة .
استقبلتنا مرحبة ودارت أحاديث هامشية في الدقائق الأولى قبل طرق ذكريات طفولتها ومشوار حياتها، فأطلقت العنان لذاكرتها: "ولدت في قرية عاقر قضاء الرملة واللد عام 1947 أي قبل النكبة وضياع فلسطين بعام واحد، كنت الابنة الثانية في عائلة مكونة من الأب احمد والأم فاطمة وأربعة أبناء: محمد ومصطفى ونجية وجميلة، تعرفت على الحياة في تجمع لاجئين أقيم على عجل في منطقة رفح على حدود صحراء سيناء المصرية حيث سكن الأب مع عائلته الصغيرة الفقيرة التي لا تملك سوى خيمة صغيرة، لا أعرف لماذا إختار أبي العيش مع عائلته في تلك المنطقة بعد أن أجبرته النكبة على الخروج من بلدته عاقر، ولكني مازلت أذكر أننا عشنا وسط خليط من العائلات المصرية والبدوية التي لها عاداتها المختلفة قليلاً عن تقاليد اللاجئين النازحين عن أرضهم تحت وقع القنابل وقصف الطائرات، بعد شهور قليلة - كما عرفت لاحقاً – انتقل أبي مع عائلته إلى مسكن صغير في عزبة يملكها شخص ميسور الحال وتولى حراسة المكان، في حين حرصت والدتي على العمل كخياطة ملابس لنساء المنطقة، ذهبت إلى مدرسة رفح وأنا في الخامسة من عمري وكنت في طريقي إليها أخترق تلالاً رملية ناعمة تعيق حركتي وتجعل السير عليها أمرا صعباً خاصة لطفلة صغيرة بمثل سني، بدأت أبرز بين زميلاتي اللواتي كن ينظرن بإعجاب إلى شخصيتي القوية رغم أنني لم أكن متفوقة في الدراسة، ثابرت على الذهاب إلى المدرسة رغم حرارة الصيف اللاهبة وبرد الشتاء القارص، كان حافز التعليم في أواسط اللاجئين يتزايد وكان أبناوهم يذهبون إلى المدارس رغم صعوبة أوضاعهم ربما أرادوا تعويض أنفسهم عما لحق بهم من أذى وحرمان، استمرت العائلة في حياتها على نفس السياق إلا أن شعر أبي بصعوبة الحياة في تلك المنطقة البعيدة عن تجمعات اللاجئين فاشترى قطعة أرض صغيرة عام 1953 وبنى عليها منزلاً متواضعاً انتقلنا للسكن فيه، وبينما واصلت أمي حياكة ملابس للاجئين رزق أبي وأخي الكبير بعمل في مقر القوات الدولية التي وصلت القطاع إثر عدوان عام 1956 الأمر الذي وفّر للعائلة مبلغاً مالياً متواضعاً ساعدها في إعادة تصميم بناء البيت بشكل أفضل، طالبتني أمي مبكرا مساعدتها في أعمال الخياطة وإحضار المواد اللازمة لها ومتابعة أمور العمل مع بعض النساء اللواتي يحضرن الملابس إلى المنزل، تحملت المسؤولية صغيرة، وبدأت الحياة تقسو بالتدريج بعد زواج أختي الكبيرة مطلع الخمسينات ، لكن شخصيتي تبلورت أكثر وأصبحت أشعر بالواجب الملقى على عاتقي تجاه أسرتي".
توفي والدها عام 1959 إثر إصابته بجلطة دماغية أثناء عمله فتحمل عبء المسؤولية الأم والأخ الكبير: "ترك غياب والدي فراغاً كبيراً في حياتي ورغم أنني كنت في الثانية عشرة من العمر إلا أن شعوري بالمسؤولية تجاه الأسرة ازداد، وأصبحت أكثر قربا من أمي التي ظلت تعيش على ذكراه سنوات طويلة، لم يقطع غيابه المفاجئ طريق متابعتي للدراسة، في تلك الأيام لمست محبة المدرسات ربما لنشاطي وامتلاكي القدرة على المناقشة وإبداء الرأي الأمر الذي أهّلني لأن أكون " عريفة الصف " رغم أنني كما اعترفت لم أكن متفوقة وكان تحصيلي الدراسي فوق المتوسط، كنت أعود من المدرسة إلى المنزل لأساعد أمي في أعمال الخياطة، وعندما يهبط الليل كنت أدرس مع إخوتي مستعينين بالضوء المنبعث من لمبة الكيروسين التي كانت تنير خيام وأكواخ غالبية اللاجئين، ظهر تفوقي بالمرحلة الثانوية ربما لازدياد شعوري بالمسؤولية، بعد نجاحي أخذت أفكر في متابعة التعليم الجامعي إثر تحسن الوضع المالي للأسرة، كنت أطمح أن أكون الطالبة الأولى من العائلة التي تذهب للدراسة الجامعية، وبالفعل قدمت أوراقي لمكتب الدراسات الجامعية في غزة، وبدأت أستعد للمغادرة إلى جمهورية مصر العربية، تزايدت الاعتراضات العائلية خاصة من أمي التي كانت تبلغ من العمر 60 عاماً معلنة خوفها الشديد من غربتي، بدأت العائلة تضغط من أجل موافقتي على الزواج، لكنني صممت على إكمال دراستي العليا، خلال هذه الفترة تقدم شخص من خارج نطاق العائلة لخطبتي ووافقت أمي على ذلك دون سماع وجهة نظري، وحين علمت الأسرة بذلك جاء عمي صبري إلى منزلنا وأصّر على خطبتي لابنه ممدوح "أبو صبري" الذي كان قد أنهى دراسته الجامعية والتحق في صفوف قوات فتح العاصفة، لم أتردد ووافقت بسهولة على الزواج من ابن عمي ممدوح الأمر الذي أثار استغراب الأم والأسرة والعائلة، شيء بداخلي كان يدفعني للزواج من داخل العائلة، ودون معرفة خلفيات قراري، حاول الأهل إقناعي بعدم صواب قراري باعتبار أن ممدوح مطارد وممنوع من دخول الوطن".
(يتبع)
"رائدات من بلدي". كتاب توثيقي بلغة البروفايل من إصدار طاقم شؤون المرأة. تحرير بسام الكعبي. أجرى المقابلة الصحفية في غزة حسن جبر.