الهجوم الاستيطاني وشبح "غولدستون- 2"- مأمون الحسيني
لا يشكل استهتار رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو بالأمم المتحدة وبالمواقف الدولية المنددة بالهجمة الاستيطانية الأخيرة، وبالأخص مشروع البناء في منطقة “إي 1” الواقعة بين القدس وأريحا، والتي تفصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها، وفي مستوطنة “جيفات هاماتوس”، ومستوطنتي “جيلو” و”رامات شلومو” اللتين تتجاوزان ما يسمى “الخط الأخضر” الذي يفصل أراضي 1948 عن الضفة الغربية المحتلة، فضلاً عن بناء نحو 10 آلاف وحدة استيطانية جديدة في الضفة الغربية، لا يشكل هذا الاستهتار أي خروج عن نسق الخطاب والسلوك “الإسرائيليين” المعتمدين منذ إقامة الكيان قبل نحو ستة عقود ونصف العقد، واللذين دشَنا مسيرتهما الخارجة على كل الشرائع والأعراف والقوانين الدولية والإنسانية، باغتيال الوسيط الدولي الكونت السويدي الجنسية فولك برنادوت في 17 سبتمبر/أيلول 1948 بعد إعداده تقريراً دان فيه عصابات الإرهاب الصهيونية .
ومع ذلك، وتحت وطأة المتغيرات الوازنة التي تشهدها المنطقة والعالم، ولا سيما خلال العامين الأخيرين، ثمة خشية “إسرائيلية” متنامية من إمكان خروج ردود الفعل الدولية الرافضة للهجوم الاستيطاني الأخير عن سكتها المعتادة التي كانت تتجه، على الدوام، نحو الاكتفاء بالاستنكار والتنديد، وخاصة في ظل إدانة وشجب 14 عضواً من أصل 15 في مجلس الأمن الدولي، بما فيها ألمانيا وبريطانيا وفرنسا والبرتغال، قرارات البناء في القدس وفي الأراضي المحتلة، وظهور العديد من المؤشرات على احتمال صدور” “تقرير غولدستون 2” عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذي قطعت دولة الاحتلال علاقاتها به بعد أن قرر في مارس/آذار/ 2011 تشكيل لجنة تحقيق دولية في آثار البناء “الإسرائيلي” في المستوطنات على حقوق الفلسطينيين في المناطق المحتلة بما في ذلك شرقي القدس، والتي لم تسمح لها سلطات الاحتلال بدخول الأراضي المحتلة .
ويبدو أن مصدر الخشية “الإسرائيلية” لا يتعلق فقط بتأثير المتغيرات الإقليمية والدولية على المواقف الغربية فقط، وإنما كذلك بانعكاسات عمليات الاستيطان المزمع الشروع بها على الخريطة الجغرافية والديمغرافية والسياسية في الأراضي المحتلة العام ،1967 ولا سيما مشروع بناء 3000 وحدة سكنية وعدة فنادق في منطقة “إي 1”، الذي ستؤدي ترجمته على أرض الواقع إلى فصل شمال الضفة عن جنوبها بشكل كامل، أي منع إقامة دولة فلسطينية متواصلة جغرافيا، وإخراج القدس الشرقية من دائرة التداول بعد تهويدها بشكل شبه كامل، وإقامة ما يسمى “القدس الكبرى” التي ستقتطع ما نسبته 10% من أراضي الضفة الغربية، وتصبح في قلب الكيان العبري بعد أن كانت على تخومه، فضلاً عن تهيئة الظروف لتشييد ممرات برية بعرض 15 كيلومتراً وعمق نحو 35 كيلومترا تصل ما بين البحر المتوسط وغور الأردن الذي يرتفع منسوب تهويده باطّراد .
انطلاقاً من ذلك، واستباقاً لإمكانية إعادة إنتاج تقرير جديد على شاكلة تقرير غولدستون الأول الصادر عن لجنة التحقيق الدولية المنبثقة عن مجلس حقوق الإنسان في سبتمبر/أيلول 2009 الذي أكد، في أكثر من خمسمئة صفحة، تورط الجيش “الإسرائيلي” في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال عدوانه قبل الأخير على قطاع غزة، تستعد وزارة الخارجية “الإسرائيلية” لمواجهة آثار مثل هذا التقرير المتوقع صدوره في مارس/آذار المقبل من قبل لجنة خاصة شكلها المجلس ذاته “لفحص البناء الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية” الذي يعدّه القانون الدولي “جريمة حرب” . ومن بين الاحتمالات التي تم تداولها إمكانية تبنّي مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة التقرير، والطلب من المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي إصدار موقف عن التوسع الاستيطاني، فضلاً عن إجراءات عقابية ضد “إسرائيل” أو تشكيل أجهزة متابعة ورقابة على البناء في المناطق المحتلة .
وبصرف النظر عن الحجج التي تعدّها حكومة نتنياهو لمواجهة التقرير المتوقع، بما ذلك الزعم بأن التقدم في مخططات البناء منوط بالسلوك الفلسطيني بعد قرار منح فلسطين صفة دولة غير عضو في الأمم المتحدة، واحتمال طلبهم الانضمام إلى وكالات دولية أخرى، والادّعاء كذلك بأن البناء في “إي 1” لا يمس التواصل الإقليمي للدولة الفلسطينية المستقبلية الذي يمكن أن يكون فوق الأرض (جسور) أو تحتها (أنفاق)، فإن من واجب الفلسطينيين والعرب وجميع الدول الرافضة للاستيطان، تكثيف تحركهم السياسي والدبلوماسي والإعلامي، وممارسة الضغوط المختلفة، لتحويل التقرير المتوقع إلى وثيقة إدانة للمسؤولين السياسيين والعسكريين “الإسرائيليين”، وعدم تفويت الفرصة المتاحة لمحاسبتهم عن الجرائم المرتكبة في حق الشعب الفلسطيني وأرضه المحتلة، وعدم السماح بإضافة “غولدستون- 2” المرتجى إلى سوابقه في أرشيف مكتبة الأمم المتحدة .