ساحة اللؤلؤة أقرب من «الكتيبة»!- عدلي صادق
بادرني سفيرنا في البحرين، صديقي طه عبد القادر (خالد عارف حركياً) بمجاملة طريفة كعادته، تتمثل في كيل المديح، للجالية الهندية نصف المليونية في مملكة البحرين. فقد بادر «وجهاء» الهنود في المنامة، الى تنظيم احتفال تضامني مع فلسطين، وكانت حكومة البلاد التي تعرف أن المهرجان سيكون سلمياً، تُسابق أريحية الهنود، وتتقبل المناسبة وتشجعها. وقال لي صديقي طه إن الهنود طلبوا مكافأتهم بأن نتيح لهم المشاركة في إضاءة شعلة ذكرى الانطلاقة مساء يوم 31 الجاري. فهؤلاء مسكونون بشغف كبير بالرمزيات وبتبجيل العلامات الفارقة في تاريخ أمتهم، بهندوسها ومسلميها وسيخها!
ربما تكون ساحة «اللؤلوة» في البحرين، أقرب الى جمهور الحركة الوطنية الفلسطينية من ساحة «الكتيبة» في غزة. ويقيناً، يحترم الجمهور الهندوسي، تاريخ النضال الفلسطيني ورموزه، أكثر من احترام الحمساويين له. لكن المليون الذي يستأذن بالظهور ويلتمس احتشاده من الآخرين، وتكون حال وجهائه، كحال البائسين الصابرين في طابور «الجمعية» لا تلزمه المهرجانات. فالأصل، أن يتسامى وجهاء المليون، على أية سلطات تعرف التاريخ وتحفظ علائمه الفارقة، وتؤسس علاقة وجدانية مع رمزيات نضال شعبها ورموزه وحكاياته. فما بالنا إن كنا بصدد سلطات، لم تُجد معها تطورات السنين العشر الماضية نفعاً، على صعيد تهيئتها لفهم عموميات التاريخ والسياسة، وما تزال تحشد على أساس السمع والطاعة، فلا يرتقي المُطاعون المسموعون، من أمراء الزمن الأغبر، الى مستوى إنصاف الراية الرمزية لشعب فلسطين ممثلاً في علمها الوطني. كانوا في «يوم مشعل» قد استدعوا العلم الفلسطيني عندهم على المنصة، كمن يعتذرون له عن عدم استيعابه على النحو الذي يليق به في ساحة الاخضرار بالراية الحزبية!
في البحرين، يرفع الموالون والمعارضون، علم البلاد، كراية رمزية جامعة، وعلى اعتبار أن الاختلاف هو في التفاصيل وحول المطالب، وأن الخلاف لا يمس ألوان العلم الوطني. وفي كل الدنيا، يختلف الناس على خيارات داخل مشروع الحياة والتحقق الوطني، وليس على المشروع من أساسه والتمسك بمخاصمته من خارجه. والديمقراطية في بريطانيا، تدور في محصلتها النهائية، لكي ترجح حزب للحكومة، ولا تدور حول ما إذا كان النظام السياسي سيُقتلع أم لا يُقتلع من جذوره، أو إن «بيت ويندسور» الجرماني الأصل، الذي تتحدر منه الملكة اليزابيث الثانية؛ سوف يُحال الى التاريخ و»الله يعطيه العافية». ولا تعني الديمقراطية التي جاءت بحركة «حماس» الى الحكم في أوقات ملتبسة يختلط فيها الغث بالسمين؛ أن المنافسين مشطوبون. فمن يتأبط حكماً بهذه الهواجس، يؤذي نفسه ويصنع محنته بيديه ولن يكون له مستقبل، مهما بدت السيطرة على غزة مُحكمة أكثر من إحكام سيطرة تشاوسيسكو على رومانيا.
* * *
لا يختلف اثنان على أن «حماس» تخشى من صورة الحشد الوطني الفتحاوي في غزة. فمهرجان مشعل، أنقذ حكم الانقلاب، من انكشاف العجز عن الحشد. وجاء مشعل، بروح تصالحية ورؤية أقرب الى الواقعية، وبتدابير لضمان السلامة، أقرب الى التنسيق الأمني، فاستبشر الناس خيراً وشاركوا بكل أطيافهم احتفاءً بالضيف، وببدايات التحول الى الزمن الطبيعي بحقائقه الموضوعية، ومغادرة زمن التورم بـ «الكورتيزون» الهرموني المنشط. وما أن انطبعت صورة الحشد الكبير الذي سعدنا به وفق معانيه الحقيقية، حتى بات صعباً على الحمساويين أن يتكرر برمزيات غيرهم وفي مناسبة انطلاقة الثورة على الاحتلال.
ولأن هؤلاء «الإخوان» لا يعرفون التاريخ، ولا علاقة بينهم وبين رمزياته الوطنية، ولأنهم في كل مكان، يرون الأوطان مجرد فضاءات للتمكين ولإرسال الإشارات الى العالمين ولتشغيل الخيالات والوعود القصوى التي ليس أقلها تواضعاً، قيادة البشرية بقضها وقضيضها؛ فلا ننتظر السماح بحشد يبرهن على جدارة الآخرين في المنافسة، وجداراتهم بالغلبة عند الاحتكام لإرادة الشعب. إن الحشد الفتحاوي المزمع، خطير النتائج على صعيد الحمامسة: يرسل رسالة أخرى، الى المخدوعين في الخارج، ويعكس إرادة ووجهة المظلومين في الداخل، ويفتح الأفق لمصالحة قوامها العودة الى صناديق الاقتراع، ويهدد بنقص الأوكسجين في فضاء التمكين والتمظهر الجهادي لإطلاق الوعود القصوى، ويُعيد الناس الى العقل والى الواقعية، التي هي أمل النضال الوطني الصلب المتمسك بالثوابت؛ بالاستحواذ على مساندة الأمم!
لذا، فليوفر وجهاء الزمن الرمادي، من الفتحاويين البؤساء، الجهد والوقت على أنفسهم، وليقتصدوا في تفاؤلهم ووعودهم. فالمليونيات لا تستأذن الفتية، في هوامش حُكم غبي وبلا بصيرة. عندما تفعل المليونيات ذلك، فإنها تتصرف كطابور جمعية من خمسين شخصاً، وتُدخل هؤلاء الى حيث لا يستحقون، أي الى التاريخ الذي لا يعرفون عنه شيئاً. إن ساحة اللؤلؤة، أقرب من ساحة «الكتيبة» بالنسبة للملايين التي تستأذن!
www.adlisadek.net
adlishaban@hotmail.com