الثورة الفلسطينية..أجيال وراء أجيال- يحيى يخلف
ذكرى انطلاقة الثورة تقترب من عامها الخمسين، خمسة عقود أو أقلّ قليلا مرت على لحظة القرار الوطني المستقل الذي فجّر ثورة تحرر مسلحة في قلب الشرق الأوسط خزّان النفط العالمي، وملتقى المصالح الاستراتيجية، والجيوسياسية للعالم أجمع. عندما التقى ياسرعرفات وخليل الوزير (أبوجهاد) بالزعيم الصيني ماوتسي تونغ في مطلع الستينيات وشرحا له مشروعهما في التحضير لثورة مسلحة تتبنى حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد، قال لهما: كم ستكون صعبة ثورتكم..انتم تريدون تفجير ثورة في منطقة آبار النفط.. انها ستكون ثورة المستحيل!!.
اذن هي ثورة المستحيل التي صنعها المشردون والمقتلعون والمغلوبون من أبناء المخيمات وأبناء اللجوء والشتات، ومن الصابرين الصامدين على ما تبقى من أرض في وطنهم. أطلقوا الرصاصة الأولى ضد الاحتلال وظلمه وعنصريته وسلبه لحقوق شعب استعصى على الانقراض والمحو وما زادته النكبة والكارثة الا ايمانا بحقه في العودة والتحرير. كوكبة من الطليعيين ومن الرجال العاديين الذين صنعوا الثورة وصنعتهم الثورة وملأوا الدنيا والمشهد العربي والدولي على امتداد زمن مديد، وعلى درب الحرية ساروا وسار معهم شعبهم الذي قدم عشرات الألاف من الشهداء والتضحيات. وامتلكوا الوعي، وأصبح العادي غير عادي، هكذا بنيت فتح من رجال صاروا في سياق الثورة غير عاديين، وتم وصفهم بجيل العمالقة، وهذا ما يفسر بقاء فتح التنظيم الأكبر، وصاحب القرار الوطني الذي يقود الحركة الوطنية الفلسطينية طوال هذه العقود. هكذا تأسست وبنيت حركة فتح، وهكذا كان هيكلها التنظيمي والفكري : قيادة من قامات عالية يلتف حولها كوادر شجعان يلتزمون بمواقف وقرارات هذه القيادة وبخطها الفكري ومواقفها السياسية.ولزمن طويل لم تتغير هذه القيادة ولم يغب عن لجنتها المركزية من جيل العمالقة الّا من غيّبه الموت، وفي مؤتمراتها القليله قياسا على عمرها الزمني ومسيرتها الطويلة وحتى العام 1989 لم يحدث تبدل جذري في هويتها القيادية، اذ ظلت الأسماء المؤسسة هي الأسماء التي تلعب الدور الأكبر، وهي الرموز التي يعتد بها. في عام جديد الذي هو العام الثامن والأربعون للانطلاقة تجد حركة فتح نفسها دون جيل الآباء ودون الرموز القيادية التي بقيادتها وحضورها حققت الحركة أعظم انجازاتها. تجد قيادة حالية لا تسد فراغا وهذا ما يفسر عودة قاعدة الحركة الشجاعة والباسلة وكوادرها الأفذاذ وفي غياب جيل العمالقة، ما يفسر عودتهم الى استحضار ماضي الحركة المجيد والتغني به والتباهي بمسيرتها وتعظيم رموزها وشهدائها. وما يمثل المعادل الموضوعي لافتقاد قامات عالية ومقنعة تقود الحركة في زمن الازمات والتحديات. انّ الحركات السياسية التاريخية تفتقد رموزها في اللحظات الصعبة عندما تكون هويتها مهددة. والحركات السياسية التي تعمّر طويلا وتتطلع الى استكمال مهامها في انجاز أهدافها تمر كالانسان في مراحل الطفولة والشباب والشيخوخة، ولكنها تتجدّد وتعيد الاعتبار لحياتها الداخلية من خلال المؤتمرات، ولا شك بأننا ونحن نحتفي بالذكرى الثامنة والأربعين لانطلاقة فتح والثورة الفلسطينية، هذه الذكرى العزيزة المليئة بالدروس والدلالات، اننا على ثقة من أنّ حركتنا الوطنية بفصائلها كافة بحاجة الى تجديد حياتها الداخلية وبرامجها وقياداتها، وفسح المجال لبروز قيادات شابّة، وكذا الأمر بالنسبة لحركة فتح التي مازال لها الدور الأساس في انجاز مشروعنا الوطني، ويكتسب أمر نهوضها حاجة وضرورة لأعضائها ولأبناء شعبنا الذين يتطلعون الى انجاز التحرر والاستقلال، وبناء مجتمع مدني، ودولة مدنية.. دولة كل مواطنيها..دولة مدنية لا دولة دينية، وهم يتابعون ما يجري في دول ما يسمى الربيع العربي، ما يجري من محاولات أحزاب الاسلام السياسي الهيمنة وفرض رؤيتهم الأحادية على المجتمع بأسره. فتح حاجة وضرورة لأعضائها وانصارها، وفتح حاجة وضرورة لغالبية عظمى من أبناء شعبنا، لأنه في غياب فتح سيكون هنك فراغ يملؤه آخرون مشروعهم مغامر وغير ديمقراطي وغير حداثي وغير مدني. بنية فتح التاريخية كانت بنية جيل العمالقة المؤسسين، وظل الأمر كذلك لسنوات طويلة، ولعل الرئيس أبومازن، رئيس حركة فتح الآن هوآخر العمالقة الذين قادوا فتح، ولعله من أكثر القادة الذين فتحوا الباب أمام الصف الثاني للوصول الى المواقع الأولى للحركة وخاصة عضوية اللجنة المركزية، ولست بصدد تقييم أداء اللجنة المركزية لأنّ ذلك له مكان آخر هو المؤتمر العام السابع الذي من المفترض أن يعقد خلال عام، لكن من المهم أن يحافظ جيل جديد من القادة الشباب على المكاسب والانجازات الوطنية التي حققها جيل العمالقة وكوادر تاريخية رافقت ذلك الجيل وأن يكمل الجيل الجديد بقية المشوار، ويصنع انجازات ومكاسب تعادل تلك التي حققها جيل العمالقة، وبالمناسبة فان اولئك الرجال من آباء الحركة لم يولدوا عمالقة، وانما لم يتركوا الأقدار تقرر مصيرهم، بل صنعوا أقدارهم وأقدار شعبهم، ومع الزمن وبعد تحقيق ثورة المستحيل على أرض الواقع أصبحوا عمالقة يملأون فضاءات العالم.في ذكرى انطلاقة فتح ندعو لمؤتمر عام في أقرب فرصة يراجع التجربة، ويدرس التحديات القادمة، ويستشرف المستقبل، ويجدد البنى السياسية والتنظيمية ،ويضع أسس الوحدة الوطنية والتعددية والديمقراطية لبناء المجتمع والدولة المدنية، ويعطي الفرصة لبروز أجيال جديدة تنتمي الى سلوك وثقافة وصدق ومبادرة وعظمة جيل العمالقة.