"هيئة الأسرى": الأسير فادي أبو عطية تعرض لتعذيب وحشي أثناء اعتقاله    سلسلة غارات للاحتلال تستهدف مناطق متفرقة في لبنان    رام الله: قوى الأمن تحبط محاولة سطو مسلح على محل صرافة وتقبض على 4 متهمين    أبو الغيط: جميع الأطروحات التي تسعى للالتفاف على حل الدولتين أو ظلم الشعب الفلسطيني ستطيل أمد الصراع وتعمق الكراهية    قوات الاحتلال تغلق حاجز الكونتينر شمال شرق بيت لحم    الاحتلال يواصل عدوانه على مدينة ومخيم جنين لليوم الـ34    لليوم الـ28: الاحتلال يواصل عدوانه على مدينة طولكرم ومخيميها    الاحتلال يقتحم قباطية ويجرف شوارع ويدمر البنية التحتية    الطقس: فرصة ضعيفة لسقوط الامطار وزخات خفيفة من الثلج على المرتفعات    الاحتلال يؤجل الافراج عن الدفعة السابعة من المعتقلين ضمن اتفاق وقف إطلاق النار    شهر من العدوان الاسرائيلي على مدينة ومخيم جنين    الاحتلال يواصل عدوانه على طولكرم وسط اعتقالات وتدمير واسع للبنية التحتية    الرئيس يصدر قرارا بتعيين رائد أبو الحمص رئيسا لهيئة شؤون الاسرى والمحررين    معتقل من يعبد يدخل عامه الـ23 في سجون الاحتلال    تشييع جثمان الشهيدة سندس شلبي من مخيم نور شمس  

تشييع جثمان الشهيدة سندس شلبي من مخيم نور شمس

الآن

خيانة البدن!-خيري منصور

القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
ربما كانت المحارة البحرية هي الأقسى والأشد تماسكا وصلابة من كل البيوت لأنها تؤتمن على لؤلؤة، بعكس البدن البشري الذي غالبا ما يخذل الروح التي تسكنه، ولعل هذا هو ما ادركه محي الدين بن عربي، الذي اتسع قلبه للأديان كلها وللأكوان ايضا على ما تعج به من تناقضات لكن جسده لم يتسع لروحه، فكان في الهزيع الاخير من الليل يجلد قدميه والبدن الأشبه بالدابة التي لم تعد تقوى على حمله، وعبارة مالارميه التي نافست صاحبها في الشهرة واوشكت ان تتفوق عليه وهي ان الجسد لحزين، تختصر الحكاية كلها، فالجسد هو ما يموت ويذبل وقد يستشعر بالغريزة مصيره، فتتولى القشعريرة بدلا من اللغة التعبير عن خوفه وانفعالاته الشديدة. ومن اكثر الكتّاب وعيا بالجسد البير كامو ذلك المتوسطي ذو الثقافة الهيلينية، لأنه كان يتبع جسده احيانا كما تفعل القطط حين يقتادها انفها الى سمكة خصوصا في مقالاته التأملية عن جميلة وتيبازة الجزائريتين، حتى بطل روايته الغريب كان اسمه منحوتا من الشمس والبحر "ميرسول" وحين ارتكب جريمة قتل على الشاطىء تحت شمس سليطة كان الدافع الحقيقي جسديا وهو ما تساقط من حبيبات العرق من جبينه وخصلات شعره على عينيه، وفي لحظة جسدية فائقة يقول ان ما تبقى من ملوحة على وسادته وفراشه من جسد صديقته التي قفزت من البحر اليه أهم بكثير من كل الميتافيزيقيا .. انها وثنية من طراز بشري خاص يتحول فيها البدن الى معبد لكنه ايضا لا يؤتمن على ما في محاريبه من آلهة، اذ سرعان ما يكبو ويخذل صاحبه، وكان برنارد شو قد غادر سخريته تماما ليقول بشكل جدي مترع بالشجن ان عمر الانسان اقصر بكثير مما يحتاج، فهو بحاجة لأن يعيش عدة قرون كي يحقق ما يريد، لكنه ما أن يتعلم فن الحياة حتى يغادرها، لهذا فالموت هو التجربة الكاملة الوحيدة. * * * * * * * من الطبيعي ان يقفز رينر ماريا ريلكة بجسده النحيف ووجهه الشّاحب كقديس وثني الى هذا المشهد ما دمنا بصدد خيانة البدن، وهو واحد ممن لم تؤتمن محارة اجسادهم على ما فيها من لؤلؤ، يصفه ولسون وهو يغادر بيته باتجاه زقاق شحيح الاضاءة فيما ينتظره الاطفال عند انعطافة الزّقاق بأنه فراشة تخلت عن جناحيها للنور، اما الاطفال الذين ينتظرون لحظة خروجه من البيت فأهم ما يشغلهم هو الثياب الانيقة والوردة البيضاء والحفيف غير البشري.. عندئذ يرددون باصوات تشبه اصوات النوارس.. انه رينر ماريا ريلكة... ثم يسدل الستار بانتظار نهار آخر. يقول ريلكة وكأنه يسائل خالقه : لماذا نموت قبل ان نتقن عادات تعلمناها ؟ فما ان نتقن مهنة الحياة حتى تتخلى عنّا، فالعمر مجرد مسودة او اسكتش او دوزنة لكنها تبقى في هذا النطاق التجريبي، وما من سبيل لتدارك ما فات من اخطاء، هنا يمكننا العثور على تأويل آخر وجودي في جوهره لعبارة هيراقليطس عن الزمن، وهي ان النهر لا يقطع مرّتين، ولم تكن اجساد بعض هؤلاء الخلاقين المردة في ارواحهم امينة عليهم، فافتقدوا قوة البدن وشكيمته، فسقط منهم من سقط في
اول الطريق ومن شاخ تمنى الموت كما تمنته سيبيل في الاسطورة لأنها طلبت الحياة الأبدية ونسيت ان تطلب العافية والشباب معها. يقول ريلكة ان كل من اقترب منه اغتنى وهجره، ولو كان أقوى او ذا محارة محكمة وصلبة لقال انه هو الذي هجر كل من اقترب منه واغتنى، تماما كما لو ان الشاعر العربي القائل اعلّمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني وقف على الشاطىء المقابل وقال ان كل من علمه الرماية وحاول ان يرميه اخطأه سهمه وانتحر به، اما ذلك الصبي الذي انتعل الريح وغادر مقاعد المدرسة لأنه غير مؤهل لأن يبلي سراويله على خشبها، فقد خذله البدن في ذروة الصعود، فلم يكن آرثور رامبو على موعد مع النخاسة والتحلل والانتحار الشعري قبل ان يحدث الاشتباك بين روح وثّابة وجسد مسرطن ، لقد كان بحاجة الى بدن كالذي وصفه لوركا في رثاء ميخياس مصارع الثيران عندما قال انه كان نهرا اسود او نمورا في تدفقه، لهذا كان موته اشبه بمجزرة نفذت بكائن واحد. * * * * * * * في رثاء الشاعر احمد حجازي لصديقه الشاب الذي خذله البدن في اول الطريق وهو شقيق الناقد الراحل رجاء النقاش يقول: لماذا رجعنا جميعا وأوغلت انت؟ الرجوع هنا ادانة للأحياء وكأنهم بالبقاء على قيد الوجود يخذلون موتاهم او يتخلون عنهم، لكن لهذه الادانة الذاتية وجها آخر، هو تخلي جسد النقاش عنه، وهذا التخلي والخذلان من الجسد ليس شرا على الدوام، فقد يكون السبب الوحيد الذي جعل المخذول جسديا ان يتخفف من اعباء البدن ويوغل حيث عاد الاخرون. وفي اعمال السياب الشعرية ثمة شعور عميق ومفعم بالأسى ازاء خذلان الجسد، وان كان السياب بفضل فائض الروح والموهبة قد فك الاشتباك مبكرا بين البدن وساكنه فأصغى كما يقول الى رنين المعول الحجري وهو يزحف نحو اطرافه، واستطاع ان يعلن العصيان على الخوف من موت الجسد في قصيدته الطويلة حفّار القبور، لأنه اشفق على هذا الحفار الذي اذا شح عدد الموتى يجوع، فهو يأكل من مهنة مضادة للحياة لكن من أجل الحياة وتلك هي الجدلية الآسرة في رؤية شعرية أزالت الالتباس بين الحياة على سطح الأرض وفي باطنها. حتى الرومانسي كيتس استبق بدر شاكر السياب بزمن طويل كي يعلن عن زهده في كتابة اسمه على سطح الماء... فالزوال هاجس مشترك بين العابرين الذين تحرروا من اوهام الإقامة. * * * * * * * * كان كامو يقول بأنه لا يخاف من الموت لكن جسده هو الذي يخاف منه، وهذا يوضح للقارىء كيف ان بعض تأملات هذا الكاتب عن الحياة والموت تبدو كما لو انها كتبت بدم نازف من الاصابع وليس بأي قلم او أداة. ففي خطابه الدرامي الذي يعدّ نصّا ادبيا بامتياز الذي القاه غداة فوزه بجائزة نوبل، لم تشغله البهرجة والسّلالم السويدية ذات الغطاء الخشبي الجميل عن الصراصير والفئران التي كان يرتطم بها في الظلام اثناء حياته بحي بلكور، فقال ان اصابعه ترتعش في استوكهولم تلبية واستجابة لفزع غريزي مزمن استوطن الجسد.
* * * * * * * * * * قد يبدو شاعر كالمتنبي خارج هذا المدار وهو المزهو بقوة الجسد كي يصبح مؤهلا لحملّ الروح، فمن يستشهد بالسيف والرمح والخيل والبيداء اضافة الى القلم كي يزهو بفائض العنفوان، فقَدَ جسده بسبب هذه القوة، ولولا عيّره غلامه بما قال لاستطاع النجاة. * * * * * * * * فهل كان أجدر بريلكة ان يقول بأنه هجر من اقتربوا منه واغتنوا بدلا من شكواه بأنهم هجروه؟ ام ان هشاشة المحارة لم تكن اهلا لحماية اللؤلؤة حتى النهاية؟ ومن يدري قد يكون تورطنا نحن المعاصرين بثقافة سايكولوجية فاضحة وكاشفة للمستور والكامن سببا آخر لمضاعفة الشّقاء، فمن يقترب ليغتني ويهجر، يجب ان يلفظ كالنواة على رصيف، ومن يتعلم الرماية ليرمي من علّمه يجب ان يستدير السّهم في قوسه الى الوراء ليستقر في قلبه، وبغير ذلك يختلط علينا الامر بين الشفق والغسق والكرم والسّلب فلا ندري أهي نواجذ تبتسم ام تتأهب لافتراس النّخاع ؟ اما سؤال هاردي الذي سيبقى بلا اجابة للأ بد فهو لماذا يبلى الغمد ويبقى السّيف على مضائه ؟
sh

إقرأ أيضاً

الأكثر زيارة

Developed by MONGID | Software House جميع الحقوق محفوظة لـمفوضية العلاقات الوطنية © 2025