جمهورية جنوب العراق!- فؤاد ابو حجلة
منذ أكثر من عشرين عاما بدأت الولايات المتحدة بالنفخ في مشروع شيطاني لترسيخ الدولة القطرية في المنطقة العربية ودفعت باتجاه خطاب جديد يتبنى الخصوصيات القطرية والطائفية أيضا في الكثير من الدول العربية التي انخرطت في هذا المشروع دون حساب عواقبه. وقد بالغ هذا الخطاب في تحريك الولاءات الصغيرة وتضخيم الاعتداد بالذات وبالأصل العشائري وبالانتماء الطائفي، وبدأت بالظهور في ذلك الحين شعارات غريبة ينتهي معظمها بكلمة "أولا"، وكان كل نظام متورط في هذا المشروع يسعى لإقناع شعبه بأن الارتباط العضوي بالمحيط العربي هو سبب التخلف والعجز الاقتصادي والفقر وانعدام الأمن المجتمعي في الدولة، وقد نجح هذا الخطاب في تحشيد قطاعات كبيرة عدديا من الفئات الأقل وعيا والأقل تأهيلا والأكثر ميلا للاحتكام إلى أحاسيسها الغريزية، وبلغ مستوى التجهيل المبرمج حد اعتبار فلسطين وقضيتها سببا لمشكلات الكثيرين من عرب الجوار.
في ذلك الوقت، أي عند إطلاق هذا المشروع التخريبي، لم يكن العراق كدولة جزءا من هذا التوجه الجديد، وإن كانت فئات سياسية عراقية ارتضت التحول إلى أدوات في أيدي الأميركيين والايرانيين تطوعت للمساهمة النشطة في تعزيز الولاءات الضيقة والمناقضة لعروبة الدولة، وكان الخطاب الرسمي العراقي متميزا بانحيازه لقضايا الأمة وكان النظام الحاكم متميزا بمبادراته الانقاذية في دول عربية كثيرة هددتها الأزمات الصعبة.
ما تلا ذلك معروف، فقد تم استهداف العراق واحتلاله بعد توريط النظام في غزو الكويت، وجرى تسليم الحكم في بغداد الى زعماء الطوائف، وكان طبيعيا أن تلمع نجوم المرجعيات الشيعية في سماء العراق بعد سنوات من القمع والاضطهاد. وبادر الحكام الجدد على الفور الى تصفية حساباتهم الطائفية واضطهاد أهل السنة الذين يمثلون الأغلبية العددية في العراق بغض النظر عن المزاعم والادعاءات القائمة على تضخيم أعداد الشيعة.
ومثلما كان مرسوما فقد جرى بالفعل تقسيم الدولة العراقية وتم فصل الشمال ليصبح دولة كردية خالصة يحتاج فيها العراقي القادم من الوسط أو من الجنوب الى تصريح خاص لزيارة أربيل.
ومثلما كان مرسوما أيضا جرى تصعيد الاضطهاد الذي يمارسه الحكم الطائفي ضد الأغلبية السنية لدفعها الى التمرد.. وهذا ما يجري حاليا بالفعل في محافظات بغداد والأنبار وصلاح الدين، حيث تخرج الجموع الى الشارع مطالبة باسقاط النظام، وحيث تقاطع كتلة الحكم الطائفي جلسة البرلمان الخاصة ببحث قضية أهل السنة، وكأن لسان حال الحكومة الطائفية التي يقودها نور المالكي يقول "لكم دينكم ولي دين".
من يتابع المشهد العراقي الآن يستطيع قراءة المآلات ويدرك أن التصعيد ذاهب الى ترسيخ الانقسام وربما الفصل السياسي بين الطائفتين بجمهورية للسنة في الوسط وجمهورية للشيعة في الجنوب ليصبح العراق مقسما بالفعل إلى ثلاث دول.
الدول العربية تستسلم الآن لأقدارها وتمضي نحو تفتيت المفتت، فبعد الاحتفال الرسمي السوداني المستفز بقيام دولة جنوب السودان نستعد الآن للاحتفال بقيام دولة جنوب العراق لتعيش "بسلام وعلى أساس الاحترام المتبادل وحسن الجوار" مع دولة سنية في الوسط!
ندعو لقراءة المشهد العربي باهتمام والحذر من التورط في دولتين واحدة في الضفة وأخرى في غزة.