يؤسفني أن أبلغك- غسان شربل
أعرف أنه وطنك. وأنك تعشقه. ومستعد لبذل دمك دفاعاً عن حياضه. وأنك لا تقبل التفريط بحبة تراب. وأنك حارس أمين لقبور أجدادك. وأعرف أنك فخور بجذورك إلى حد التعصب. وتلتهب عيناك إن استهدفها غريب بكلمة جارحة أو ساخرة. وأنك شديد المباهاة بمن طردوا محتلاً أو ردوا عدواناً. وأنك حفظت مواويل رددها والدك نقلاً عن والده. وأنك إن سافرت بضعة أيام أصبت بمرض الحنين الجارف.
أعرف أنه وطنك. ولك فيه بيت تزعم أنه يحميك من لسع البرد ولسع الغربة ولسع الفقر. وأمامه حديقة شربت من عرقك ومن أيامك. وأنك لا تكره الأرض وإن بخلت. ولا تلوم السماء وإن أخلفت الأمطار مواعيدها. وأنك تعتبر الظلم في الوطن أقل من ظلم الابتعاد عنه. وأنك تصر على التفريق بين الوطن والحزب الذي يلتهمه. وبين الأرض والأجهزة التي تستبيحها. وأنك ببراءة مفرطة ترى ضوءاً في آخر النفق.
وأعرف أنك تستجير بالتاريخ منقباً عن تعزيات. كأن تقول إن بغداد تنام على الآف السنوات من الحضارة. وإن حلب سيدة المدن وأعرقها. وإن بيروت مختبر ونافذة. وإنها لو لم تكن لكان على العالم اختراعها. وأنك تستخدم وصف العظيم لبلدك. والمجيد لتاريخك. والمشرق للمستقبل. وما تقوله يقوله رجل في صنعاء. وآخر في القاهرة. وفي أماكن كثيرة.
أنحني بإجلال أمام نبل مشاعرك. ولا أريد إفساد طمأنينتك. لكنني أريد أن أقول لك ما ترددت في قوله طويلاً. أنا مواطن عربي أعرف تلك العواصم. زرتها حاملاً آلة التسجيل ودفتراً صغيراً وأسئلة كثيرة. زرتها ونمت فيها وعدت إليها. استمعت الى مسؤوليها وإذاعاتها وقرأت صحفها. وكنت بريئاً مثلك كي لا أقول ساذجاً. ثم اكتشفت ما يؤسفني اليوم أن أبلغك به.
يؤسفني أن أبلغك أن النشيد الوطني دجال. وكي لا أجرح شعورك أقول إنني أبدأ أولاً ببلادي. إنه عباءة حيكت من المبالغات والأحلام والأوهام نخفي تحتها خناجرنا ومواعيد التربص بشركائنا. أعرف أن عليك الوقوف لدى سماعه. وربما تأدية التحية. وأنك تبتهج إذا هبت ريح خفيفة ورفرف العلم كطفل مذبوح. هذا لا يغير شيئاً. ويؤسفني أن أبلغك أن كتاب التاريخ كذاب كبير. وأن كتاب التنشئة الوطنية سرق من المعجن نفسه.
منذ تمزق رداء العروبة وأنا مصاب بعقدة الكهوف. كهوف الظلمة والرطوبة والثأر. أشعر أن مدننا كهوف. وجامعاتنا كهوف. وأحزابنا كهوف. وأننا نهرب من الضوء لأنه يبهر عيوننا. يعرينا. يطالبنا بالانتماء إلى العصر ومغادرة أنفاق التاريخ. هجمت الكهوف على أيامنا وأقلامنا وشاشاتنا. وبدل الصعود إلى القطار المتجه إلى المستقبل ها هي ترغمنا على السفر إلى الماضي. تهويل وتخويف وتخوين. والويل لمن يعاند قطار الظلام.
لا تتهمني بالمبالغة. التفت إلى المنطقة. إنها تتفكك. الدول التي كان يعتقد أنها راسخة تنفجر اليوم كسفينة اصطدمت بالصخور العاتية. الخرائط التي كانت تعتبر مقدسة ممددة اليوم على الطاولة ومتروكة لشراهة أبنائها. الولاءات العابرة للخرائط تدمر أماكن انطلاقها وأماكن وصولها. تدحرجت الدول تحت وطأة الظلم والفساد وها نحن في الطريق إلى دويلات غير رسمية مهددة بظلام مديد. أزمة تعايش رهيبة ولا نزال نغرف من معجن النشيد الوطني وكتاب التاريخ بحثاً عن أوراق التوت. لا جذور لدينا لفكرة الدولة والمؤسسات. ولا لفكرة المواطنة والدساتير العادلة. ولا لفكرة الديموقراطية والمحاسبة والتناوب.
لا تتهمني بالمبالغة. نفتك ببعضنا ونكذب. نتهم العدو وأصابع العدو. نتهم الاحتلال وحين نطرده نتفرغ للاحتراب والتفجيرات والاغتيالات. أنهار من الدم تحفر عميقاً داخل تلك الخرائط التي كنا نسميها أوطاننا. أنهار من الكراهية تفصل الحي عن الحي المجاور. كنت من الوطن وصرت من بعضه. كنت من المدينة وصرت من بعضها. وها أنت تشعر أنك أقرب إلى ابن بلد آخر منك إلى جارك في المبنى أو الحي أو المدينة. وأنك تخير جارك المختلف بين التنازل عن ملامحه أو الهجرة. إننا في بدايات عصر الكهوف وإقامتنا فيه تبدو طويلة.