لماذا تدافعت الحشود إلي انطلاقة فتح في غزة ؟ - د. ابراهيم نتيل
اعتقد الكثير وأنا منهم بان حركة فتح ماتت وعفا عليها الزمن منذ استشهاد أبو عمار في نوفمبر 2004 وخسارتها السياسية في انتخابات يناير 2006 و سيطرت حركة حماس علي القطاع في حزيران 2007. واعتقدنا أيضا بأنها غير قادرة علي النهوض مرة أخرى أو حتى إحياء فكرتها وأيدوليجيتها قبل تجديد وتطوير الحركة التي ترهلت وعصفت بها الكثير من الخلافات الداخلية الخطيرة علي الرغم من انعقاد مؤتمرها السادس في بيت لحم المحتلة عام 2009. لقد اعتقد بان فتح ماتت في داخل أجهزة السلطة وبقيت حبيسة لرواتب منتسبي وموظفي هذه السلطة.
ولكن المشاركة الجماهيرية والشعبية الحاشدة من مختلف قطاعات وفئات وأعمار الشعب في احتفالات الانطلاقة 48 غير المسبوقة والتي زحفت إلى ارض السرايا في مدينة غزة بمجرد الدعوة للحضور فاجأت وفاقت توقعات كل المراقبين والمتخصصين وحتى صناع القرار فلسطينيا وإقليميا ودوليا وحتى منظمي الحفل أنفسهم علي الرغم من توقف فقرات المهرجان بعد خطاب الرئيس محمود عباس بسبب العشوائية والتدافع باتجاه المنصة الرئيسية. لقد انتظر القائمين علي الحفل بفارغ الصبر وخوف شديد جدا فشل المهرجان وتحقيق الهدف المرجو من اقامته ليبرهنوا بأن فتح مازالت موجودة وتتعايش وتتكيف في غزة علي الرغم من سنوات عجاف من الاخفاقات علي كافة الأصعدة بسبب التحديات الداخلية والوطنية والاقليمية والدولية وفشل المفاوضات لتحقيق حل الدولتين بسبب التعنت والصلف الاسرائيلي. لقد كان المنظمون يعيشون حالة خوف وحيرة وريبة شديدة من امكانية فشل الاحتفال والعيش في مواجهة انتكاسة جديدة ليثبت ويبرهن اخرين لحركة فتح بان المخاوف والنظريات الأمنية التي صوغت قبل الاحتفالات حقيقية وأن الخلافات الداخلية في حركة فتح أعمق وأشرس من الواقع وأن فتح غير قادرة علي التعايش مع نفسها والتعالي علي خلافتها الداخلية من أجل صورتها حتى مؤقتاً أمام العامة في يوم انطلاقتها فقط.
لقد توقعوا بأن هناك مصادمات ستحدث بين أقطاب الحركة ستفشل الاحتفال لتبرهن أن هذه الحركة غير قادرة علي التسامح مع نفسها فكيف ستسامح و تتصالح وتتعايش مع الآخرين؟ فكيف لهذه الحركة التي تسيطر علي المنظمة تستطيع أن تقود وطن وشعب يتطلع لدحر الاحتلال وإقامة دولته المستقلة وتحقيق الثوابت وهي غير قادرة علي أن تقود نفسها وجمهورها في يوم انطلاقتها فقط؟
ولكن هذا النجاح الحضاري للجميع في غزة بدون اسثثناء أعطي صورة مشرقة عن الشعب الفلسطيني بشكل عام بانه قادر علي الاحتفال وممارسة حقوقه والتعبير والفرح بطريقة سلمية والمحافظة علي القانون والنظام علي الرغم من الانقسام والخلاف السياسي والجغرافي. بالطبع بان احتفالات الانطلاقات المختلفة التي سمح لها أن تري النور في غزة والضفة الفلسطنيية علي حد سواء أعطت مؤشرات لتحقيق التعافي والانفتاح في التعايش مع البعض والانصهار في استراتيجية واحدة بدون ابطال برنامج كل حركة أو حزب. لقد أعطت دافعا وامالاً كبيرة ليست للمصالحة الفلسطنية ولكن لاستثمار الاستمرار في نشر مفاهميم وممارسات الحوار والتسامح والتصالح في داخل الحركات والاطياف الفلسطنيية المختلفة ومواجهة الانقسام الجغرافي والسياسي.
نجاح احتفالات الانطلاقة التي استمرت لمدة أربعة أيام وتوجت في أرض السرايا لا يعود فقط لمنظمين الاحتفال الذين أنهكوا من جولات الحوار والانتظار حول الموافقة علي مكان انعقاد الاحتفال ورمزيته والعمل علي ازالة أي مخاوف أمنية تهدد سلامة المشاركين والنظام العام. ولا يعود الفضل للنجاح لجماهير حركة فتح فقط ايضا بل لقطاعات والوان واطياف مختلفة من جموع المواطنين في غزة التي شاركت بشكل عشوائي لتقول كفي لكل سياسات الانقسام والانكفاء علي الذات الحركية واللعب في مستقبل و مصير الشعب ومستقبله في ظل التحولات الاقليمية الغامضة والمريبة ولتقول لكل القيادات كفي وعليها ان تبدأ في تطبيق المصالحة وعدم الرهان علي المجهول والمعجزات لتحقيق انتصارات وتسجيل نقاط مبارزة. ويبدو ان الله سبحانه وتعالي وهب حركة فتح وحماس معا انتصارات ونقاط تسوق لجماهيرهم بضرورة المصالحة الفلسطنينة وتمهيد الطريق لاستثمارها لفعل ذلك قبل فوات الاوان. ولكن حشود انطلاقة حركة فتح اعطت مؤشرا بأن الضعيف والمهدد يمكن أن ينهض من سباته وما ذلك علي الله بعزيز. ولهذا على القوي إذا اعتقد كذلك ان يصفح ويفسح المجال لأن الدنيا دول يداولها الله بين الناس ويجب اقتناص الفرص في زمن الانتصارت وتسجيل النقاط.
وأود أن أوجز في هذا المقام بعض النقاط التي ادت الى تدفق الحشود الجماهيرية للمشاركة في احتفالات الانطلاقة علي النحو التالي:
- منع حركة فتح من إقامة احتفالاتها لمدة خمسة سنوات علي التوالي بعد الحادث الاليم الذي حدث أثناء تأبين الرئيس عرفات في نوفمبر 2007.
- التعاطف الجماهيري مع حركة فتح في قطاع غزة بسبب أحداث 2007 والتردي الاقتصادي بسبب سياسات الحصار الاسرائيلي. دائما تعودنا بان الجمهور يتعاطف مع من في المعارضة اذا تعرض الي سياسات غير مقنعة اوقاسية احيانا من الفريق الحاكم او القائمين عليها. ولهذا نظرية تداول السلطات والاحتكام لصناديق الاقتراع هي المثال الأنسب للمشاركة الشعبية وإعطاء فرصة للمواطن ليقرر , وان تجربة رفض نتائج الانتخابات ليست صالحة لكل زمان لان الثورات العربية غيرت من هذا الواقع وأعطت فرصة للأحزاب المرفوضة غربيا أو اسرائيلا ليحكم واعتقد أن هذا ينطبق علي الحالة الفلسطينية التي تعيش تحت بطش الاحتلال لان الظروف تغيرت والتجارب اكبر دليلا لتعلم ذلك بسبب الانقسام.
- حالة الاستغراب والكبت التي يعيشها معظم أعضاء ومنتسبي حركة فتح بعد سيطرة حركة حماس علي قطاع غزة وحالة الشوق والحنين إلي الماضي عندما كانت تدير الحركة قطاع غزة. فوجدت هذه العناصر فرصة للالتقاء والاحتفال في تاريخ حركتهم ونضالتها.
- تأثيرات الحصار علي قطاع غزة وتدني المستوي المعيشي والاقتصادي والانقطاع الكهربائي المستمر كما وثقت العديد من منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية في مناسبات مختلفة بسبب السياسات الاسرائلية والضربات العسكرية المتكررة من فترة إلي أخري. فوجدت هذه الجموع من المواطنين الغير منتسبين إلى حماس فرصة للاحتفال والتنفيس عن ما في داخلهم من رفض للواقع والانقسام.
- استمرار الحالة الضبابية التي يعيشها المواطن بسبب الانقسام الذي يزيد يوما بعد يوم من حالته الاقتصادية والسياسية المتردية أصلا علي الرغم من الأجواء الايجابية التي سادت بعد صمود غزة في حرب الأيام الثمانية والانجاز الدبلوماسي في الامم المتحدة.
- الخوف من عدم اقامة المهرجان بعد عدم الموافقة على إقامته في ارض الكتيبة. هذا أعطي انطباع لعدد كبير من المواطنين بان حكومة حماس في غزة غير جادة في الموافقة علي إقامة المهرجان مما زاد من حالة الاحتقان لدى جموع من المواطنين.
في الختام ما جري علي الأرض من مفأجات خلال الأسابيع الأخيرة من صمود غزة في الحرب , والانجاز الدبلوماسي لمنظمة التحرير الفلسطينية وأكثر من ذلك أهمية هو تعالي فتح علي جراحها وويلاتها وحتي لو كان مؤقتا هو خير دليل وبرهان بان الكيس الفطن الذي يقتنص الفرص الأخيرة التي وهبها الله للقادة الفلسطنين لتطبيق المصالحة الوطنية التي تعيق تطوير إستراتيجية واحدة مبينة علي الشراكة السياسية والاحتكام لصناديق الاقتراع لان الحشود التي خرجت بهذا العدد ممكن أن تندفع في كل بقعة من الضفة وغزة معا ليقولوا مع السلامة للانقسام وقادته.
وعلي حركة فتح أيضا انتهاز هذه الفرصة لتسوية خلافتها لان هناك مازالت خلافات وإلا ستعود حليمة لعادتها القديمة ويبقي احتفال فتح في غزة فقط ربيعا فتحاويا مؤقتا لن يتكرر مرة أخري.
أكاديمي وباحث سياسي
dr.natil59@gmail.com