يسألون عن "باب الشمس"..- هاني عوكل
مرةً أخرى، يبدع الفلسطينيون ويسجلون نموذجاً قوياً للنضال السياسي والاجتماعي ضد كل عناوين الاحتلال الإسرائيلي، ويبعثون رسائل شديدة الأهمية ومؤثرة في ذات الوقت، ولعلها تؤثر بقوة على المزاج الشعبي الفلسطيني العام، وعلى مختلف دول العالم.
الحديث يدور هنا عن مخيم "باب الشمس" المقام في أراضٍ مهددة بالمصادرة نتيجة الأعمال الاستيطانية الإسرائيلية الهادفة إلى ضم القدس الشرقية وتطويقها بالوحدات السكنية ومختلف أنواع البناء، في الوقت الذي يستعد فيه اليمين ونظيره المتطرف خلف نتنياهو للدخول في معركة الانتخابات التي ربما ستقود إلى إعادة طرح هذا الرجل مرةً أخرى في رئاسة الحكومة الإسرائيلية.
هذا الأسلوب النضالي الذي تم استحضاره في نموذج "باب الشمس"، إنما يحمل مضامين ودلالات كثيرة، لعل أولها أن الشعب الفلسطيني متمسك بأرضه مهما تطاول الاحتلال الإسرائيلي، وهذا التمسك يعكس موقفاً موحداً مفاده اختراع وابتداع أساليب مختلفة لاستمرار الصمود الشعبي في وجه الاحتلال.
أيضاً يعكس هذا الأسلوب إفلاساً سياسياً لدى حكومة نتنياهو، التي كشفت عن وجهها الحقيقي إزاء العملية السلمية، وفضلت مواجهة الفلسطينيين بزيادة الاستيطان وبمساعي تفكيك الدولة الفلسطينية وجعلها حلم غير قابل للحياة أو التطبيق.
هذا الأسلوب حضاري بامتياز، لكونه وسيلة نضالية فعالة، ولديها القدرة على إحداث التغيير الهائل في الحالة الشعبية، وأيضاً في المواقف الدولية، ولعل الحكومة الإسرائيلية الجديدة إذا ما قادها نتنياهو، ستواجه مشكلات كبيرة و"عويصة" في طبيعة علاقتها مع الأميركان والأوروبيين.
إن أصدق تفاعل مع "باب الشمس" هو الهبة الجماهيرية التي أخذت أبعاداً متنوعة، سواء بشقيها التعبوي كما حصل مع المظاهرات التضامنية للوصول إلى المخيم، وحتى في التضامن والبحث الجماهيري المتواصل عن كل الأخبار المتعلقة بهذا الموضوع، ومعرفة ما ستؤول إليه الأمور.
التفاعل أو ما يمكن تسميته التغذية الراجعة، حصل أيضاً مع القيادة الفلسطينية بمختلف أطيافها، التي تابعت الحدث أولاً بأول، وأقرت في اجتماع مجلس الوزراء الذي عقد مؤخراً، استحداث هيئة محلية في محافظة القدس باسم قرية "باب الشمس".
وقد يجوز في هذا السياق ربط تصريحات الرئيس الأميركي باراك أوباما حول نتنياهو وسياساته الطائشة، بما حدث في "باب الشمس"، التي على الأرجح جعلت من أوباما يسترجل ويندب حظ نتنياهو، ويفرغ ما في صدره عن رئيس الحكومة، في وقت حساس يتعلق بالاستعدادات القريبة لإجراء الانتخابات الإسرائيلية.
لقد قالت "باب الشمس" مثلما قال أوباما عن نتنياهو، فقط الاختلاف في مضامين كثيرة وعميقة للأولى، إنما لا يختلف أحد عن أن نتنياهو "سياسي جبان" حين يتعلق الموضوع بعملية السلام مع الفلسطينيين، وهذا رأي أوباما في نتنياهو بناءً على مقاله للصحفي الأميركي جيفري غولدبرغ.
ولا نختلف مع أوباما بأن هذا التوغل والتوحش الاستيطاني سيقود إلى عزلة تامة لإسرائيل، ونعتقد أن "باب الشمس" امتلكت القدرة على ترجمة هذه الفرضية التي بدأت تدركها دول كثيرة، من ضمنها الولايات المتحدة الأميركية، التي تشكل الحامي والسند والأب لإسرائيل.
وبصرف النظر عن اختيار هذه التصريحات الأوبامية، إلا أنها فعلاً تقود بشخص مثل نتنياهو إلى الهاوية، لأن أفعال "بيبي" تأخذ احتمالين، الأول يتعلق بالجاهزية الفلسطينية الداخلية للتعامل وصد الهجوم الاستيطاني الإسرائيلي، وقد تشكل الضفة الغربية في المستقبل عنواناً لانتفاضة شعبية.
الاحتمال الثاني أن هذه النشاطات المدفوعة من قبل نتنياهو ستورطه بالتأكيد مع دول كثيرة، وستحرج وتضعف مواقف بعض الأطراف الدولية الداعمة لإسرائيل، مثل الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا وبريطانيا وفرنسا.. إلخ.
وعلى الأرجح أن يواجه نتنياهو هذين الاحتمالين في المستقبل، ذلك أن المؤشرات المتعلقة بالانتخابات ترشح فوز "الليكود- بيتنا"، لكن سيكون من الصعب على نتنياهو بناء ائتلاف قوي قياساً بالهبوط المستمر لتحالفه، ولذلك سيعيد حساباته إما بتشكيل ائتلاف حديدي يضم أطراف اليمين والأصوليين، أو يشكل ائتلافاً بين اليمين والوسط.
في كل الأحوال، لن يتخلى نتنياهو عن مشروعه الاستيطاني، سواء تحالف مع أي من التيارات الإسرائيلية، ذلك أنه تعهد باستكمال مشاريع الاستيطان التي سماها "استراتيجية" في الضفة الغربية، ومن يقول مثل هذا الكلام، فقد حدد سلفاً خارطة طريقه غير المتفقة مع الفلسطينيين.
في نموذج "باب الشمس" بدا على نتنياهو الرغبة في المواجهة، حيث بين موقفه الواضح من ضرورة فض المظاهرات في هذه القرية، وهو الذي يصر على عدم السماح لأي أي أحد بتعطيل مشروع البناء الاستيطاني المسمى "إي 1" والقاضي بربط القدس بمستوطنة "معاليه أدوميم"، ذلك أن الكلام المنسوب لنتنياهو يؤكد على أن توجهه المستقبلي في قيادة الحكومة، مبني على تعميق وتسريع الاستيطان.
ما يهمنا هنا أن "باب الشمس" فتحت نافذة كبيرة في معقل الاستيطان الإسرائيلي، وينبغي استثمار هذا الجهد في فتح نوافذ أخرى حتى تدخل شمس الحرية ويتوقف الاستيطان، والحقيقة أن هذا الجهد الجبار لا يجب أن يتوقف ومن المهم دعمه قيادةً وشعباً وفصائل ومؤسسات.
لقد ترك نموذج "بلعين" طوال سنوات النضال الشعبي ضد الجدار العنصري ومصادرة الأراضي الفلسطينية، هذا النموذج ترك أثراً قوياً على الاحتلال بالسلب وعلى الجماهير الفلسطينية بالإيجاب والترحيب، حاله حال "باب الشمس"، الذي ينبغي طرحه مرة واثنتين وثلاث، كما ينبغي تعميمه على قرى أخرى.
نقول ذلك، لأن هذا النوع من المواجهة يرفع من حماسة الفلسطينيين وينشط كما يحمس المتضامين الدوليين للمشاركة في هذا الدرب، والأهم أنه يترك بصمةً قوية وانطباعاً مؤثراً على اللاعبين الدوليين، ويقود إسرائيل إلى عزلة متنامية.
من هنا، ندعو القيادة الفلسطينية إلى المشاركة في وضع استراتيجية وطنية للنضال الشعبي، تصب في خدمة المشروع الوطني الهادف إلى الحفاظ على الثوابت الوطنية وعرقلة كل أنواع النشاط الاستيطاني في الضفة، وفي هذا السياق من المهم تشكيل هيئة وطنية جامعة للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، تضم إلى جانبها الدولة والفصائل والمؤسسات الناشطة والمجتمعية، وأيضاً المؤسسات الدولية والعناصر الفاعلة في المجتمع الفلسطيني.
نحتاج إلى خطاب عاقل يقول إن إسرائيل "زفت" ودولة فوق القانون، وبالتأكيد تشكل كل من "بلعين" و"باب الشمس" عنواناً لهذا الخطاب الحضاري والمسؤول في مواجهة إسرائيل. ولا مانع إن أخذتنا الحماسة للتحضير من أجل اندلاع انتفاضة شعبية سلمية، لا نريدها نحن بل تريدها إسرائيل، كما تقود سياساتها إلى "باب الشمس".