جميلة صيدم: العودة إلى الوطن - الحلقة الاخيرة
الف- غيب الموت في رام الله، السبت (30 تموز 2011) جميلة صيدم أم صبري (64 سنة) بعد سنوات حافلة بالكفاح الوطني والمنفى القسري حتى عودتها عقب توقيع اتفاقية أوسلو العام 1993. طاقم شؤون المرأة وَثَق تجربتها وأصدرها في كتاب "رائدات من بلدي" العام 2006 .
ننشر نص البروفايل الخاص بالراحلة وفق شهادتها التي تتناول يوميات حياتها، ينشر النص على عدة حلقات:
5
تذكر بدقة اللحظات التي استقبلت فيها قرار عودتها: " كنت أعيش في تونس عندما أبلغتني القيادة بإدراج اسمي في كشف العودة مع أخي مصطفى، الذي كان متفرغاً في الثورة برتبة عقيد، بدأت الاستعداد للعودة وأثناء ذلك استشهد أخي مصطفى فاضطررت لتأخير عودتي من أجل تدبير أمور أسرته، والمساعدة في عودتنا معا، نهاية عام 1994 عدت مع نسرين وصبري، وفي ذلك اليوم اختلطت مشاعري بين فرحة بالعودة وحزن لغياب أبو صبري، افتقدت الرجل وشعرت بألم كبير يمزقني ورغبة بالبكاء، تغلبت مشاعر الحزن على كل شيء، أذكر عندما اقتربنا من نهر الأردن لاجتياز معبر الكرامة إلى أريحا، نظرت إلى النهر وتخيلت أبو صبري عائداً من أرض المعركة بعد تنفيذه عملية بيت فوريك مع رفاقه ، تصورته مبتسماً رغم جديته لحظتها انتابني شعور أنه يسير في الاتجاه الآخر نحو الشرق وأنا أتجه غرباً إلى الوطن، في تلك اللحظة وبحركة غير شعورية التفت خلفي باحثا عنه للعودة معنا، ولكنني اصطدمت بحقيقة عودتي وحيدة، واصلت الطريق عبر أريحا إلى غزة، عدت إلى منازل العائلة في مخيم النصيرات وسط القطاع، زرت الأقرباء لكنني وجدت كل شيء حولي بارداً يفتقد أبو صبري، تألمت كثيراً وترددت هل أبقى أم أغادر، لكني حسمت أمري بعد أن سألني الأخ أبو عمار في أحد اللقاءات عن إمكانية بقائي قلت له: سأبقى حيث أنت، وبالفعل عدت إلى تونس وسلمت المنزل لأصحابه ورتبت أموري لأستقر نهائياً في غزة ثم أبدأ عملي كمدير عام التأمينات الاجتماعية في وزارة العمل".
لم تستمر طويلاً في وظيفتها الحكومية حتى بدأ الحديث عن إجراء انتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني عام 1996:"حين تقرر إجراء الانتخابات ترددت طويلاً في حسم أمر خوضها ، لكني بدأت أفكر جدياً بالموضوع خاصة وأن نسبة النساء اللواتي يترشحن غالبا قليلة جداً، عرضت قيادة التنظيم اقتراحا بترشحي عن دائرة الوسطى، وبالفعل حسمت أمري ورشحت نفسي لأجد دعماً كبيراً من الناس، كانت تجربة مميزة جداً خاصة أن الانتخابات البرلمانية تجرى لأول مرة في فلسطين، ولم يكن قد مضى على عودتي سوى سنة واحدة، لكنني وجدت تضامناً شعبيا الأمر الذي أعطاني دفعة للأمام وعمق شعوري بالمسؤولية، وحين فزت بمقعد نيابي أقسمت البقاء وفيّة للناس وللأهل الذين أعطوني هذه الثقة".
شكل المجلس التشريعي تجربة جديدة لمعظم الأعضاء المنتخبين إلا أنه كان بالنسبة لها نضال من نوع أخر لم تتعود عليه من قبل : "بداية عملي البرلماني اخترت اللجنة الاقتصادية لتركيز نشاطي من أجل مواجهة بعض مظاهر الفساد التي بدأت تتكشف في الساحة الفلسطينية بهيمنة مجموعة متنفذين على بعض الاحتكارات، انتقدت هؤلاء الأشخاص بشكل مباشر الأمر الذي دفعهم للتآمر عليّ وحاربوني لإبعادي عن اللجنة الاقتصادية انسحبت منها لشعوري بانعدام شروط نجاحي جيدا داخلها بالصيغة التي أريدها، بعد ذلك انضممت إلى لجنة الرقابة وحقوق الإنسان التي برز نشاطها في متابعة قضايا الفساد، إلى جانب عضويتي باطار لجنة اللاجئين التي استلمت رئاستها من عام 2003 حتى عام 2006 ، واظبت على حضور الجلسات والمشاركة فيها التزاماً مني بالمسؤولية الموكلة لي من المواطنين الذين أمثلهم، وحاولت كذلك تقديم نموذج بأن المرأة قادرة على تحمل المسؤولية وذلك لاستقطاب مزيد من النساء إلى العمل وإقناع الرجل بحق المرأة مشاركته في النشاط العام والنضال سوية على مختلف الأصعدة، شكل هذا النشاط مجالا كبيرا لنضالي الشاق لتشريع قوانين تضمن المساواة" .
وتفتخر بالدور المتميز الذي لعبته في إقرار قانون الانتخابات خاصة قانون انتخابات المجالس البلدية، الأمر الذي أفسح المجال لمشاركة المرأة : "كان هدفي أن تكون المشاركة مفتوحة أمام المرأة وإفساح المجال أمامها لأن تحقق ما تستطيعه من إنجازات، إلا أن المجلس التشريعي وبسبب رواسب السنين الماضية أقر تمثيل النساء باثنتين في كل مجلس بلدي يتم انتخابه، عرضت وجهة نظري بأن تكون المنافسة مفتوحة حتى يكون الدافع أكبر لتحقيق الانجازات، ونبعت المطالب التي حرصت عليها من الجهد الخاص الذي بذلته مع نساء أخريات من أجل إقرار وثيقة حقوقية بالمطالب النسوية الفلسطينية التي بدأ العمل بها قبل العودة إلى الوطن وجرى إقرارها وتسليمها إلى الرئيس ياسر عرفات عام 1994 في تونس، أكدنا في الوثيقة على حقوق المرأة الفلسطينية بكل الجوانب التعليمية والاجتماعية والصحية والاقتصادية ورعاية الأطفال، وهذا شجعنا لاحقا على أن تسير معظم القوانين (أقر المجلس التشريعي 108 قوانين) الى جانب القوانين الأخرى التي أقرت بالقراءات الثانية والثالثة".
لم يقتصر نضالها على القوانين التي تخص المرأة وحدها، بل ناضلت وقاتلت من أجل أن تكون هناك قوانين عادلة للفئات الاجتماعية المختلفة : "لعبت دوراً مهماً في وضع قانون العسكريين وطالبت بإنصاف رجال الأمن والشرطة الذين يعانون ويتحملون المشاق أثناء عملهم وسهرهم في حماية الوطن والمواطنين، بالفعل جرى إنصافهم وإجراء تعديل على رواتبهم وان كان طفيفاً في نظري إلا انه كان خطوة مهمة لصالح رجال الأمن والشرطة" .
خاضت انتخابات المجلس التشريعي الثانية التي نظمت في الخامس والعشرين من شهر كانون ثاني عام 2006 كانت تطمح بالفوز ثانية بمقعد برلماني، لكن تفاؤلها اصطدم بصخرة الواقع إذ خرجت من التنافس .. خسرت مقعدها في المجلس التشريعي لأسباب كثيرة، لكنها لم تخسر الإنسانة والمناضلة في داخلها وبقيت على درب العمل الجماهيري تحلم بأفضل مؤسسات مجتمعية لأجيال المستقبل حيث قدم زوجها روحه من أجل هذا الهدف.
امرأة مكافحة كثفت كل التفاصيل الدقيقة لمجتمع لا زال عرضة للأحداث الإقليمية العاصفة: فتاة لاجئة اقتلعت من وطنها عام 1948 زوجة ودعت زوجها الشهيد عام 1971 وظلت متماسكة عائدة من المنفى الى الوطن عام 1994 لتواصل النضال لاكتمال تحرره، امرأة يفترسها شعور قوي بأنها ما زالت لاجئة تبحث عن وطنها .
(انتهى)
فصل من كتاب "رائدات من بلدي". إصدار طاقم شؤون المرأة. تحرير بسام الكعبي. أجرى المقابلة الصحفية في غزة حسن جبر