أمريكا بين أحلام أوباما والواقع- هاشم عبدالعزيز
الاثنين الماضي، الموافق 21 يناير/كانون الثاني، كان يوم الأحلام الأمريكية بامتياز، كانت أمريكا على موعد مع الإجراءات الدستورية لبدء الرئيس باراك أوباما فترة رئاسته الثانية والأخيرة، والموعد تزامن مع ذكرى اغتيال المناضل الأمريكي ضد العنصرية وانتصار القيم الإنسانية مارتن لوثر كينغ، وعلى هذا أدى أوباما أولاً القسم الدستوري، ومن ثم كان خطابه الذي افتتحه بالاستشهاد بالمبادئ التي أطلقها الآباء المؤسسون لدولة أمريكا مترامية الأطراف، ومتعددة الأصول السكانية والديانات، ومتنوعة الثقافات “كل الناس قد خلقوا سواسية”، و”الله منحنا الحق في الحياة، والحق في الحرية، والحق في السعادة” .
من هذه القاعدة عاد أوباما إلى أطروحاته التي كان قدمها قبل أربع سنوات عن متطلبات إعادة بناء أمريكا الجديدة، وتوقف أمام قضية الاقتصاد الأمريكي في متطلبات تقدمه وحيويته، وركّز على حماية الناس من المخاطر التي تهدد حقوقهم وحياتهم بكرامة وسعادة .
أطلق أوباما مبادئ عدة عن المساواة والعدالة والحرية والحياة السعيدة، لكنه حاول أن يجمع المتنافرات بين إعلانه أن “السلام الدائم والأمن الدائم لا يستلزم الحروب الدائمة”، وبين تأكيده ما هو نقيض “سندافع عن شعبنا من خلال القانون والقوة”، والذي فهم من خلاله استمرار الولايات المتحدة بحربها على الإرهاب، وباستخدام عمليات الطائرات من دون طيار بما تلحقه في الأغلب من ضحايا أبرياء كما في اليمن وباكستان .
في القراءة السريعة لخطاب أوباما كان هناك إجماع على أنه تعمّد المرور على القضايا بعمومية وتجنّب تسمية الأشياء بمسمياتها، وأنه فضّل توجيه المؤشرات أكثر من إطلاق التوجّهات، وهذا ما يذهب إليه إعلانه عن السلام الذي من غير المستبعد أن يصير مظلة فضفاضة للسياسة الخارجية الأمريكية، وقد لا يكون هذا “الخيار” أقل استخداماً للمصالح الأمريكية ولا يستوعب مصالح الشعوب والأمم والعالم بأسره عن الاستخدام المفرط للحرب على الإرهاب .
هناك من لا يرى جديداً في أطروحات أوباما، وهم يجزمون بأنه لا شيء من هذا يجب انتظاره، معللين جزمهم بأن العوائق التي وقفت أمام سياسة أوباما في الدورة الأولى مازالت قائمة، بل زادت تفاقماً . ومن بين هؤلاء من يذهب إلى القول إن أزمة أمريكا ليست عارضة وطارئة ولا هي مؤقتة وحسب، بل أزمة نظام بطبيعته وأزمة دولة مفتوحة على كيانها ومكوناتها ومستقبلها .
أبرز القضايا التي يشير إليها هؤلاء، الاستدانة التي أغرقت الأمريكيين في بحر الاستهلاك وأدت نتائجها إلى إفلاس مؤسسات مالية عدة، وألحق ذلك أضراراً فادحة بالمودعين في تلك المؤسسات، وكان النصيب الأفدح للمتقاعدين، ووجد كثير من الأمريكيين الذين وقعوا ضحية القروض بدلاً من التوفير، يطردون من منازلهم لعجزهم عن سداد قروضهم ولمطالبتهم بالدفع فوق طاقاتهم .
والمآل الديني للأفراد يرتبط بالوضع في البلاد، حيث وصل الاقتصاد إلى حالة إفلاس، وغدت الحقيقة أن “الولايات المتحدة مفلسة وتعيش في كنف الدين الذي مازالت تموله الصين”، وعلى المدى المنظور على الأقل “ستستمر الصين في تمويل الولايات المتحدة طالما الأخيرة ستستمر في استيراد حاجاتها من الصين” .
هذه أولى القضايا التي تولد أخرى، منها البطالة التي بلغت رسمياً قرابة 12 مليوناً، وهؤلاء ممن مازالوا يطالبون بالعمل، تضاف إليهم أعداد أخرى من المتسكعين والمشردين والمحبطين بالحصول على العمل، ويقدر بعض المراقبين حجم البطالة الأمريكية بواقع 23 مليوناً من تعداد السكان .
وإلى هذا، هناك أزمة الفجوة بين القلة الثرية التي تستأثر بقدرات ومقدرات البلاد والعباد، وبين السواد الأعظم من المجتمع المفتوح مستقبل أجياله على الضياع .
على أن ما هو جدير بالإشارة ما بات يُعرف بالظاهرة، وهي على أية حال عسكرة المجتمع الأمريكي وتنامي الشركات الأمنية، وخصخصة وزارة الدفاع، وهي في الإجمال حولت أمريكا إلى شرطي دولي، إشكاليته أنه لا يبعث على الاطمئنان بل يثير المخاوف، فهو قاتل وسالب في آن .
على أن عسكرة المجتمع وتسييس القضاء من خلال الاختيار الحزبي لهؤلاء في المحاكم، قد تصير أقرب إلى تحصيل حاصل لما أصاب العملية الديمقراطية في هذا البلد من تشوّه له تأثير بالغ في أداء المؤسسات الدستورية وعلى إصابة الحكومة بما يشبه الشلل في كثير من الفترات وتجاه قضايا تفترض المبادرة .
الأمر يعود إلى أن المنافسة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي تصحّرت وحلت محلها “نقطة واحدة هي منع الحزب الآخر من تحقيق أي مكسب سياسي سواء في الكونغرس أو البيت الأبيض” .
هذا يعني في نظر المفكّرين الأمريكيّين والناشطين في العمل السياسي مثل توماس مان ونورمان أرونستين أنه “أصبح قانون اللعبة الصفرية قانون اللعبة السياسية (كما في المجتمعات الفئوية كلبنان)، حيث “مكسب” فريق يعني “خسارة” للفريق الآخر وبالتالي الشلل الكامل” . وإذا ما أضفنا إلى هذا تنامي وطأة العنصرية التي لا تقتصر على سجل الانقسام بين السود والبيض، بل تقوم على ما هو ديني في عداء للكاثوليك الذين يُنعتون بأصحاب البابا لا كمسيحيين من مذهب آخر، فإن ما هو باعث على القلق لدى الأمريكيين ليس الصعوبات والعوائق في استمرار التطور، بل ما بات مفتوحاً على تراجع وتدهور .
في أبرز القضايا التي تواجه الأمريكيين دولةً ومجتمعاً، تراجع التعليم ومستواه، إذ لم تعد الولايات المتحدة تحتل المركز الأول في هذا المجال، بل تراجعت مرتبتها إلى الرقم ،37 بحسب الإحصاءات الرسمية الأمريكية .
الصورة قاتمة وهي تجعل من أحلام أوباما التي أطلقها عند تنصيبه لرئاسته الثانية بعيدة المنال، ولكن إذا كانت الأزمة الأمريكية لا تحتمل الأحلام الجميلة، فمن المهم التذكير بأن الأمريكيين الذين انطلقوا في التقدم العلمي وهم استبقوا بأجياله الزمن، قادرون على مواجهة المستقبل الذي يعني مستقبل الإنسان بحق في الحياة، وحق في الحرية، وحق في السعادة والازدهار .
وإذا كان هذا ما تلامسه المبادئ التي أطلقها أوباما لإعادة بناء أمريكا الجديدة، فإنه بالتجربة الأمريكية الشاخصة، حيث القلة في ثراء فاحش واستئثار واحتكار، بالقطع لن يكون المستقبل الإنساني المنشود معقوداً على شراهة رأس المال التي نالت الأرض وطالت الإنسان فجاءت انتفاضة الأمريكان .