الصبيَنة السياسية: لا يُفتى و»مالك» في المدينة- عدلي صادق
يُصاب بعض الناس بداء التصابي أو الصبينة، في الاجتماع وفي السياسة، وفي العقائد وفي الفكر. وكان المفكر الإسلامي الجزائري، مالك بن نبي قد ركز في مطلع السبعينيات، وبطريقة ذكية، على ما ستقع فيه «الصحوة الإسلامية» من أمراض مرجعها الكبت والإحساس بالنقص، وطول أمد الهزيمة النفسية.
وقال الرجل الذي توفي في العام 1973 إن إخواننا الإسلاميين، سُيصابون بآفات التكديس والهذر الكلامي وسينتجون نمطهم الوثني الخاص. ورأى أن السمات العامة للمرض الحضاري، تراكمت في الذات عبر قرون، وباتت مع التوغل في التردي، تعمل على إبراز صبيانية الجماعات، وسبباً في تفشى الوعي الزائف في ثنايا الخطاب العربي الإسلامي المعاصر، أو خطاب الأنا الإسلاموية الجديد. وفي الحقيقة، ينطبق هذا القول على الكثيرين من غير الإسلامويين.
ويُقال في بعض الدراسات إن العامل الاستعماري كان حاسماً وفعالاً في مفاقمة وإدامة مرض الصبيانية السياسية، من خلال التدليس الإمبريالي، وغوايات المستعمر البغيض أثناء الصراع، التي تدفع النخب الرازحة تحت نيره الى ترف الخطابة بالغليظ والخارق من الوعود. وغرض الاستعمار هو تمديد فترة الأوهام وإنعاش أحلام «بسبسة» ولا مانع أن يبشر خطيب إسلاموي أو يساري، بفتح قريب للأندلس مثلاً، أو لزهرة المدائن وأكنافها، شريطة أن يكون حسن السير والسلوك الأمني.
فمن جراء خطاب كهذا، تنعقد للعدو فوائد جمة، إذ تؤخذ مفردات الخطاب غطاء لتبرير وتمرير سفالة المستعمر، ولإيقاع المزيد من الأذى في لحمنا وعظمنا ورزقنا وأوقاتنا. فالكلام عندئذٍ يشهد علينا أمام عالم لا يقيس بمسطرتنا. أما الخطاب الناضج العقلاني، لا الصبياني والاستعراضي الكذوب، فهو الذي يزعج الأعداء، لأنه يتعلق بالممكن الذي يعرف العدو طبيعته من حيث انه، حين يتحقق، سيكون متبوعاً بممكن آخر لن يُتاح بدونه!
وفي الحقيقة كان المفكر الإسلامي الجزائري المستنير، مالك بن نبي، قد زادها قليلاً بكلامه الصادم أو الجارح وإن كان هؤلاء يستحقونه فعلاً. فهو يرى أن نخبة المثقفين الخطابيين، لا تزال أسيرة مرحلة «أفول حضاري لا يُنتج سوى حشود بشرية، تشبه قطعان الغنم. فبرغم كمها العددي، فهي لا تقدر أن تصنع لنفسها عالماً من الأشياء النافعة والأفكار، لأن العطالة مست جميع نواحي الحياة، وتزامن مع العطالة عرضٌ نفسي أخطر من الداء ذاته، يتمثل في أعذار العطالة، التي نلاحظ وجودها في أبسط أعمالنا اليومية»!
هذا ما قاله رجل غادر عالمنا الى رحاب الله قبل أربعين سنة، وقال مثله كثيرون، منهم شيخ أسبق للأزهر الشريف، هو عبد الحليم محمود، الفقيه العالم النابغة، المتوفى قبل نحو ربع القرن. ومالك بن نبي، لا يرقى الشك الى غيرته على الإسلام والمسلمين، وليس أدل على ذلك، مما كتبه راشد الغنوشي ـ الذي التقى به وتعرف عليه شخصياً ـ في مقالة عنه، رأى فيها أن مالك هو المكمل الطبيعي لسيد قطب، لأن الرجل يُسعف وينير الطريق الى الواقع والى كتاب الله، وليس ثمة أفضل من مالك بن نبي، صاحب سلسلة الحضارة، على هذا الصعيد. فإن كان الحديث في الحضارة، فلا يُفتى ومالك في المدينة»!
يحسن بمتصدري الرهط المؤمن، ان يقلعوا عن الخطاب ذي الوعود القصوى والحث على مواجهة الواقع والمجاهدة في كل الميادين لكي نتقدم، دون التسليم للأعداء أو التنازل على أي حق من حقوقنا. فالعمل السياسي والكفاحي، في خضم هذا الواقع وعلى الخرائط، يتطلب صحواً واستنارة وصدقية وزهداً ومقومات كفاح، ولا يتطلب جلخاً للألسنة ومعطاً للكلام. إن المرتجى، يتعلق بثقافة جديدة وعمل حقيقي وسلوك آخر!