المصالحة الفلسطينية بين إنهاء الاحتلال والحكم- ناجي صادق شراب
بعيداً عن التشاؤم أو التفاؤل بالمصالحة فلا بد من التسليم بعدد من الحقائق أو المسلمات والتحولات التي تفرض نفسها على الحالة الفلسطينية، وإدراكها قد يشكل مخرجاً ومنهجاً مفيداً لإنجاز المصالحة، وأولى هذه الحقائق أن حالة الانقسام ليست مجرد حالة بسيطة، بل هي حالة مركبة وبنيوية، وقد تجذرت في البنية السياسية والمجتمعية الفلسطينية، والإقرار بذلك لا يعني أنه لا يمكن التغلب أو التعامل معها . والحقيقة الثانية هي أن المصالحة خيار حتمي، وأولوية فلسطينية عليا، ولا يمكن لأي من فتح أو حماس أن تحقق خياراتها من دون الخيار الفلسطيني الواحد، وخصوصاً أن هذه الحالة تخضع للاحتلال “الإسرائيلي”، وإن هذا الاحتلال يحتم المصالحة بأي شكل من الأشكال . أي باختصار شديد أن خيار الانقسام لا يمكن أن ينهي الاحتلال “الإسرائيلي”، وهذا يعني أيضاً أن خيار المقاومة لوحده لن يحقق هذا الهدف، ولا المفاوضات الخيار الثاني يمكن أن تحقق إنهاء الاحتلال .
ولذلك من دون الالتفاف حول رؤية فلسطينية توافقية تشاركية سيبقى خيار المقاومة وخيار المفاوضات يدوران في حلقة مفرغة، والحقيقة الثالثة أنه لا يمكن الذهاب للمصالحة بنفس المدركات والمعطيات السابقة، وبعبارة أخرى لا يمكن الاعتماد على المصالحة الإجرائية كالانتخابات أو حتى تشكيل الحكومة الفلسطينية، والتي قد يكون الهدف منها إعادة تفريخ النظام السياسي الفلسطيني بنفس المنهجية السابقة، أي العمل على احتواء حركة حماس أو الجهاد في إطار النظام السياسي الفلسطيني، هذا رغم أهمية الانتخابات والحاجة لتجديد الشرعية السياسية الفلسطينية كلها، وأيضاً لا تعني مجرد تحول للسلطة من فتح إلى حماس أو من حماس إلى فتح، فهذا التفكير لم يعد صائباً، ولا يمكن أن يحقق المصالحة من منظور حالة الانقسام المتجذرة بنيوياً .
لذا ينبغي أن يكون الهدف العمل على إعادة مناهج وآليات المصالحة من خلال البحث عن بنية سياسية جديدة قادرة أولاً على تحقيق التوازن السياسي، وثانياً قادرة على تحقيق مبدأ الشراكة السياسية بين كافة القوى السياسية، والابتعاد عن حالة الاستقطاب السياسي ثالثاً، ورابعاً التوافق حول رؤية فلسطينية أو محددات للعمل السياسي الفلسطيني في إطار نظام سياسي ديمقراطي توافقي يعترف بوجود كل القوى السياسية الفاعلة، وقادر على احتوائها داخل بنيته السياسية وذلك بإقرار إطار ملزم للعمل السياسي الفلسطيني، والعمل المقاوم . ويأخذ في الاعتبار خصوصية الحالة الفلسطينية، والاعتماد على منهاج التدرج في تحقيق المطالب الفلسطينية الوطنية وخصوصاً العمل على اكتمال الدولة الفلسطينية الكاملة .
ومن المسائل المهمة في سياق إعادة بناء منظومة سياسية فلسطينية تصالحية إدراك أن الكثير من أعراض الانقسام قد تبقى قائمة، لكن بقاءها في إطار النظام السياسي التصالحي قد يكون أسهل للتعامل معها والتخلص منها، وهذا يعني إعطاء أولوية للمصالحة أولاً حتى مع الإقرار ببنية الانقسام، وهنا قد تبرز معضلات صعبة كالمعضلة الأمنية، والوظيفية والإدارية والقانونية، فمثل هذه المعضلات يمكن حلها من خلال إعادة تحديد أدوار ووظائف مؤسسات السلطة في إطار الدولة الفلسطينية الجديدة . ومن الحقائق المهمة أيضاً الإقرار بالتحولات العربية، والتغيرات في البنى السياسية لدول مهمة مثل مصر، ووصول الإخوان والقوى السياسية الإسلامية للحكم، فهذا التحول لابد وأن يفرض نفسه على توجهات المصالحة الفلسطينية، وهنا قد يبرز حرص حركة حماس في الحفاظ على بقائها ووجودها كسلطة في غزة امتداداً لحكم إسلامي مستقبلي، هذا الإدراك لا ينبغي أن يوضع كعقبة في طريق المصالحة، ولكن لو أخذنا خصوصية الحالة الفلسطينية من احتلال، وانقسام سياسي وجغرافي، يمكن توظيفه إيجابياً بما يحقق المصالحة . وفي سياق هذه التحولات إدراك أن المنطقة العربية كلها تمر في حالة من التحول، وأن هناك العديد من الملفات التي تحظى بأولوية في الأجندة السياسية الدولية، كالملف النووي الإيراني، والملف السوري، وإدراك أن القضية الفلسطينية قد تكون ثمناً لتسوية هذه الملفات، ومن دون تفعيل للدور الفلسطيني في عملية التحول الإقليمي فلا أحد سيكسب فلسطينياً، بل إن الخاسر الكبير سيكون الشعب الفلسطيني وقضيته . وتتزامن مع هذه التحولات الإقليمية انتهاء الانتخابات “الإسرائيلية” ونذّكر بما قاله نتنياهو إن الهدف الرئيس لحكومته هو تحقيق وحدة الشعب اليهودي، والحيلولة دون انقسام في داخل “إسرائيل”، والأجدر بالفلسطينيين أن يتوحدوا، وينهوا حالة الانقسام السياسي التي من شأنها اختزال القضية الفلسطينية في قوالب حكم ضيقة . وإدراك التحولات في السياسة الأمريكية، وأن الولايات المتحدة ما زالت الفاعل الرئيس الذي يتحكم في التفاعلات السياسية على مستوى المنظومة العربية، وأن هذه المنظومة في حالة تحوّل لا ينبغي أن تكون القضية الفلسطينية هي الثمن السياسي الذي يدفعه الشعب الفلسطيني من قضيته .
ولعل من أهم التحولات الإيجابية التي تدفع في اتجاه المصالحة إنجاز موضوع الدولة الفلسطينية المراقب في الأمم المتحدة والتي تحتاج لجهد طويل لتكتمل عضويتها، والنتائج السياسية التي خرجت بها حركة حماس من الحرب الأخيرة في غزة وأهمها تحقيق مزيد من الشرعية الإقليمية والدولية، وهذه الشرعية لن تكتمل إلا في إطار الكل الفلسطيني .
هذه بعض الممكنات التي تدفع في اتجاه مصالحة بعيدة عن عملية اقتسام للسلطة الفلسطينية وتوزيعها، وبعيداً عن مفاهيم المحاصصة السياسية، التي قد تنهار مع أول انتخابات تتم بعد المصالحة، فالمطلوب مصالحة للمشروع الوطني الفلسطيني، ومصالحة مع الذات الفلسطينية، ومصالحة مجتمعية تحول دون ذوبان الشخصية والهوية الفلسطينية في سياق كيانات سياسية إقليمية أو قطرية أكبر . إنه زمن التحولات السياسية الكبرى في المنطقة، ومن دون تغير وتحول في الحالة السياسية الفلسطينية من الانقسام إلى المصالحة سيتحول الفلسطينيون إلى كينونات سياسية صغيرة غير قابلة للعيش والتوالد ذاتياً .