الاستبداد والحرية بين زمنيْن- عدلي صادق
منذ نحو أربعين سنة، فقدت مصر زمنها الجميل، الذي يتوافق المزاودون مع الخونة، على أنه زمن الحروب والاستبداد. ففي ذاك الزمن كان الناس يحفظون أرقام الحافلات الأنيقة النظيفة، التي تسري في أرجاء المدينة، وكانوا يحبون «الديكتاتور» ويحترمونه جميعاً.
فقد كان شبيهاً بهم، في مأكله ومشربه وفيما يملك ويطمح ويحلم. والمصريون أيامها، لم يكونوا اكتشفوا حكاية الديموقراطية السمينة أو الملتحية.
أما الرجل الذي يصفونه بـ»الدكتاتور» فكلما زاره رئيس أية دولة، كان يراها مناسبة سانحة لكي يطل على الناس ويستمتع بالمرور في الشوارع التي يشتاق اليها. يذهب الى المطار لاستقبال ضيفه، ثم يصحبه في سيارة مكشوفة، تشق طريقها بين حشود تتجمع تلقائياً.
ثم إن الأمن يظل على حاله المستتب، أينما ذهب الرجل. وفي مقدور قارئي أن يرى عبر «يو تيوب» شريطاً لزيارة جمال عبد الناصر الى اليمن، وكيف غاص الضيف، في بحر هائج من البشر، بشكل تلقائي وغير منظم، بينما هو المطلوبة رأسه، لمخابرات الاستعمار القديم والجديد، باعتباره طرفاً في صراعات حركات التحرر مع القوى التي تستعمر بلدانها. لقد شق الرجل طريقه، بين حشد هائل من اليمنيين، يتمنطق كلٌ منهم، إما ببندقية، أو سيف أو خنجر أو فأس، ويجري، إما حافياً أو بخُفٍ، كأنما يطارد ناقة هاربة من قبيلته، بينما الناقة متاحة وقائمة وسط الحشد، لكن الجمع غفير.
وسيرى المتأمل في الشريط المتوافر عبر «يوتيوب» أن لا أثر لعناصر الحماية اليمنية أو المصرية، ولا وجود لعناصر الأمن الأنيقة ذات السماعات الصغيرة في آذانهم وبدلات الجوخ وربطات العنق والنظارات الشمسية.
في زياراتي المتكررة للقاهرة، موئل الكتاب وموطن القامات العالية في الفكر والآداب والعلوم؛ كنت مضطراً لشراء سيارة صغيرة، لتأمين ابنتي الطالبة هناك، في ظروف لم يعد فيها الانتقال آمناً، من خلال ما أتيح من وسائل المواصلات في أوقات الثورة.
ذلك فضلاً عن احتياجي دائماً الى استئجار سيارة للتنقل، كلما زرت مصر، وكان ذلك من بين عناصر الجدوى الأكيدة التي أوجبت الشراء. المهم، دفعنا نصف الثمن وجعلنا النصف الباقي مقسّطاً على اثني عشر شهراً. لكن الذي حدث ولم يكن متوقعاً، أن السيارة سُرقت في اليوم نفسه، الذي دفعنا فيه القسط الأخير من ثمنها. وبالطبع، تخلخلت قناعات محسوبكم في كل حسابات الجدوى التي اقنعته بالشراء أصلاً. فقد وقعت السرقة، بطريقة بليغة، لا خطأ فيها يفتح ثغرة تتيح للشرطة أن تتقصى آثار السارق!
وفي الحقيقة، أحسست في يوم إبلاغي بسرقة السيارة، بمشاعر حنق مع الرضى عن كل ما كتبت، متعرضاً لجرائم سرقة سيارات المواطنين المصريين، وبيعها وترخيصها في غزة. فقد حافظت على موقفي المستنكر لغزوة السيارات، على امتداد المسافة من موضع السرقة الى موضع الترخيص، مروراً بفتحتي الإنزال الى النفق وسحبها منه!
تطوع أحد الأعزاء، بالمثابرة على التقصي، من خلال صديق له من حقل الاختصاص الأمني في هذا النوع من الجرائم.
وبعد مرور شهرين، جاءني هاتف العزيز، مبشراً ببدء مفاوضات على استعادة السيارة مقابل فدية، فهي موجودة. وكان الضغط لصالحنا شديداً لتخفيف المَغْرَم الظالم. فقد شوهد آخرون يدفعون مبالغ عالية، بينما المطلوب مني خمسة آلاف جنية فقط، ربما لأن السيارة من الفئة الخفيفة.
حاول محسوبكم أن يتفلسف وينصح بكمين لضبط السارق، فقوبل الاقتراح بالسخرية، إذ تأسست لمثل هذه الممارسات ـ للأسف ـ ضمانات وأعراف، حتى باتت كلمة «الشرف» فيها لا تُكسر، ولا نكوث بالعهود. لقد بات من مقتضيات «الشرف» في هذا الزمن، أن يستوفي المغتصب كل ما يظن أنه حق له. وبسبب تعقيدات هذا الزمن القبيح، نصحنا «حماس» أن تجتنب مواضع الشُبهات في العلاقة مع إخوتنا المصريين، وأن تساعد على رد الحقوق الى أصحابها، وأن تعلم أن في مصر، حفنة من النُخب الركيكة، الفاقدة للثقافة، والمقيمة في الإعلام، تنتظر أية حكاية تتعلق بأي طرف فلسطيني، لكي تعود الى معزوفات ابراهيم سعده واستاذه موسى صبري من قبله، وجوقة العربدة الإعلامية على الشعب الفلسطيني. ونلاحظ أن في مصر الآن، من لا يترددون في اتهام «حماس» بأي شىء نكاية في «الإخوان» وفي مرسي. وهؤلاء لا يفعلون ذلك لصالح الحركة الوطنية الفلسطينية، وإنما هم من أنصار حركة تحرير مصر من هويتها العربية وتجريدها من دورها ومسؤولياتها التاريخية. لذا قلنا للحمساويين ارتفعوا فوق غرائز الربح والتملك، لكي لا تؤخذ عليكم قرائن تفتح المجال للإساءة لنا جميعاً، ولتشويهنا على مستوى الوعي الشعبي المصري. لقد أحسست بمشاعر الإنسان الذي تُسرق سيارته، مثلما أحسست بالظلم لدفع ثمن استرجاعها. لعنت الحرية التي نحبها طالما إنها تُضعف الدولة، وتمنيت الدكتاتورية مع قوة الدولة، ثم اعتذرت، لأن الزمن الجميل، لم تكن دكتاتورية، مثلما لا يمكن وصف الواقع الراهن بأنه الحرية!
adlishaban@hotmail.com