فلسطين وَعَواملُ التعْريَة- خيري منصور
قد لا يكونُ هناك فَرْق بين عوامل التعْرية في التاريخ والجغرافيا، لأن الزّمن قاسم مشترك بينهما، وقد تكون العقود الستة التي مرت بها القضية الفلسطينية مجرد جملة معترضة في التقاويم التقليدية، لكنها ليست كذلك بقياس عصرنا الذي أحرق المراحل، وأصبح التطور فيه كما التسارع المحموم يقيم وزناً للدقيقة الواحدة .
وعوامل التعرية التاريخية والسياسية التي تعرضت لها قضية طالما وُصِفَتْ قوميّاً بأنها القضية الأم والمركزية، تتلخص في ثلاث نقاط على الأقل، هي على التوالي: رِهانُ الاحتلال على أن الجيل الفلسطيني الذي حمل بلاده في الذاكرة وكان شاهد عيان على ما جرى أوشك على الانقراض . أما الجيل الثالث الذي ولد وعاش خارج فلسطين فهو يحملها في القلب فقط،أما الذاكرة فقد حُرِمَتْ منها .
والنقطة الثانية هي تعرية سياسية وقومية ودينية، بعد أن أصبحت فلسطين بحجمها الجغرافي فقط، وبخريطتها الأشبه بخنجر منحوت من الصخر بين نهر وبحر .
ونزع القضية من سياقين أساسيين هما تَعْرِيبُها وأَسْلَمَتُها أتاح لناشطين من مختلف الجنسيات والثقافات أن يملأوا الفراغ تعبيراً عن مواقف أخلاقية وأخرى ذات صلة بحقوق الإنسان .
والنقطة الثالثة في هذه التعرية هي اجتماعية وديموغرافية، فالاستيطان ليس مجرد تمدد في فراغ، بقدر ما هو طارد وخانق للسكان الأصليين، لأنه يهدف إلى استبدال المهاجرين بهم، وعدد من هاجروا من الفلسطينيين إلى مختلف أصقاع الأراضي وخصوصاً إلى أمريكا وأستراليا وكندا خلال العقود الثلاثة الماضية يصل إلى حدود الترانسفير، لكنه حدث هذه المرة بالتقسيط وليس بالجملة .
فقد كان حصار غزة والحملات العسكرية عليها بمنزلة اختبار لهذه التعرية، أما القول إن العرب يرضون بما يرضى به الفلسطينيون ففيه استقالة قومية صريحة، فالقدس ليست مجرد مدينة فلسطينية، وكذلك المسجد الأقصى ليس مجرد بيت فلسطيني، وقبل أربعين عاماً لم يكن الاستيطان قد تمدد على هذا النحو الأخطبوطي، ولم تكن شبكة الطرق والمواصلات قد حولت قرى ومدناً إلى ثآليل تلفها الخيوط وتَعَزلها عن الدورة الدموية للبلاد، وتنامي الاستيطان بهذا الحجم هو عامل تعرية سياسي وديموغرافي . وأضاف الجدار العنصري العازل إلى هذا العامل بعداً آخر، لأنه قضم المزيد من الأراضي الزراعية وقطع أوصال فلسطين، وإذا استمر الحال على ما هو عليه فإن مدن فلسطين وقراها سوف تتحول إلى جزر متناثرة في محيط احتلالي . والزمن ليس دائماً حليف القضايا العادلة . لهذا حاولت سلطات الاحتلال كَسْبَهُ ولا نقول إنها حاولت شراءه لأن ما حققته منه كان بالمجّان وبلا أي ثمن .
وإذا أردنا اختصار استراتيجية الاحتلال التي تستثمر عوامل التعرية بالمعنى السياسي، فإن ما قاله “موروا” عن المسمار الذي يُدَق في خشبةٍ بموازاة مسمار آخر يقابله لابد أن يصل إليه ويخلعه .
وما يحدث في القدس الآن من خلخلة بنيوية لمعمارها وديموغرافيتها والأماكن المقدسة فيها هو المثال الحي، فقد أصبحت أسس الأقصى هشة وكذلك ما حولها، إذ يكفي زلزال بمقياس عادي أن يحول أهم ما في القدس إلى أطلال، ثم ينسب هذا التدمير إلى الطبيعة وعوامل تعريتها وليس إلى التاريخ وما انتهى إليه من سطو الأسطورة على الحقيقة .