الاحتلال يهدم منشأة تجارية ومنزلين ويجرف اشجار زيتون في حزما وبيت حنينا    "التربية": 12,820 طالبا استُشهدوا و20,702 أصيبوا منذ بداية العدوان    الاحتلال يجبر الجرحى والمرضى على إخلاء المستشفى الاندونيسي شمال قطاع غزة    إصابة 3 مواطنين واعتقال رابع إثر اقتحام قوات الاحتلال مدينة نابلس ومخيم بلاطة    الأمم المتحدة تطلب رأي "العدل الدولية" في التزامات إسرائيل في فلسطين    عدوان اسرائيلي على مخيم طولكرم: شهيد وتدمير كبير في البنية التحتية وممتلكات المواطنين    الإعلان عن مراسم وداع وتشييع القائد الوطني المناضل الكبير اللواء فؤاد الشوبكي    "مركزية فتح": نجدد ثقتنا بالأجهزة الأمنية الفلسطينية ونقف معها في المهمات الوطنية التي تقوم بها    17 شهيدا في قصف الاحتلال مركزي إيواء ومجموعة مواطنين في غزة    الرئيس ينعى المناضل الوطني الكبير اللواء فؤاد الشوبكي    سلطة النقد: جهة مشبوهة تنفذ سطوا على أحد فروع البنوك في قطاع غزة    و3 إصابات بجروح خطيرة في قصف الاحتلال مركبة بمخيم طولكرم    الرئيس: حصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة سيسهم في بقاء الأمل بمستقبل أفضل لشعبنا والمنطقة    "استغلال الأطفال"... ظاهرة دخيلة على القيم الوطنية وجريمة يحاسب عليها القانون    "التربية": 12.799 طالبا استُشهدوا و490 مدرسة وجامعة تعرضت للقصف والتخريب منذ بداية العدوان  

"التربية": 12.799 طالبا استُشهدوا و490 مدرسة وجامعة تعرضت للقصف والتخريب منذ بداية العدوان

الآن

المصائر الفاجعة للشعراء العظام-شوقي بزيع

تحتاج الأمم في بحثها الدائم عن ظهير لهويتها إلى التحلق حول رموز جامعة تستلها من التاريخ والجغرافيا، كما من اللغة والثقافة وطرائق التفكير، لتواجه بها عثرات الحاضر ومفاجآت المستقبل، ولتعصم وحدتها من التشتت وكيانها من التشظي . لا تكتسب الأعلام والأناشيد الوطنية قيمتها بهذا المعنى من ألوانها المجردة أو كلماتها القليلة، بل من قوة الرمز المتجسد في الألوان والكلمات، حيث يضفي الولاء للوطن على هذه الأخيرة دلالات ليست لها في الأصل ويجللها بهالة من الخشوع تقارب حد القداسة . ومع ذلك فإن الأمم لا يضاهي بعضها بعضاً بالأناشيد وحدها بل يتقدم الشعر على سائر الفنون الأخرى في تعبيره الجلي عن روح الأمة ووحدة تاريخها وشكل حضورها في العالم . والشعراء، لا النحاة والأكاديميون وأعضاء المجامع اللغوية، هم الذين يتمردون على رتابة المعاجم ويضرمون النار تحت حطب المفردات اليابس، حتى لتكاد لغاتهم الأم تعرف بهم وتحمل أسماءهم، فيقال عن العربية لغة المتنبي، وعن الإيطالية لغة دانتي، وعن الإنجليزية لغة شكسبير، وعن الروسية لغة بوشكين، وعن الألمانية لغة غوته . . وهكذا دواليك . سيمكننا أن نفهم تبعاً لذلك سبب اعتزاز الشعوب العظيمة بشعرائها العظام الذين تطلق أسماءهم على شوارعها الكبرى وحدائقها العامة، وتدخل نصوصهم في مناهجها المدرسية، وتحوّل البيوت التي سكنوا فيها إلى متاحف ومزارات . لكن ما يستعصي على الأفهام هو أن يقضي أكثر الشعراء فرادةً وتمثيلاً لكرامة الشعوب على أيدي أبناء جلدتهم بالذات، وأن يموتوا مذبوحين بخناجر الغدر في أوج عطائهم الإبداعي . أقول ذلك وأنا أتابع بفرح مشوب بالغصة التكريم الاستثنائي الذي تحاط به ذكرى الشاعر الروسي الأكبر بوشكين بمناسبة مرور مئة وخمسين عاماً على رحيله مقتولاً برصاص ضابط فرنسي قيل إنه استدرج الشاعر إلى مبارزة غير
متكافئة، بعد أن راود زوجة بوشكين عن نفسها وأصابه بجرح في كرامته يصعب تضميده إلا بالموت . ولم تكن المأساة تلك ناجمة عن الصدفة المجردة، بل كان الضابط القاتل هو الحصان الذي راهن عليه القيصر للتخلص من الشاعر الذي نادى، قبل ظهور الماركسية بأعوام، بمحاربة الفساد وإصلاح النظام القيصري الجائر وتضييق الفجوة بين شرائح المجتمع . من الصعب ألا نستذكر في هذا السياق شاعر العرب الأكبر أبا الطيب المتنبي . فهذا الشاعر الذي طبقت شهرته الآفاق وهو لايزال على قيد الحياة، قضى بدوره مقتولاً في مبارزة مشابهة بينه وبين فاتك الأسدي، الذي ظل يلاحقه أعواماً طوالاً بحجة قصيدة مقذعة قالها المتنبي في هجاء أخته . على أن الأسدي ذاك لم يكن يمثّل نفسه المفطورة على الجريمة فحسب، بل يمثل رغبة الأمة، أو بعضها على الأقل، في التخلص من الشاعر المتمرد الذي أرهق بكلماته نزوعها إلى الخنوع، وأثقل كاهلها بما لا قدرة لها على احتماله من موجبات المواجهة مع نفسها ومع أعدائها الكثر . فبعد أن ضاقت بالشاعر أنفة سيف الدولة وضغائن كافور وغيرة ابن العميد ومكائد الكثيرين من نظرائهم بدا طريداً في بلاد العرب، وغريباً “كصالح في ثمود” بحيث جاء الموت ليضع النقطة الملائمة عند آخر السطر . وربما كان أبو الطيب أكثر حظاً من بوشكين لأن أعداءه الذين تمنوا موته قد أتاحوا له أن يعيش خمسين سنة كاملة، في حين لم يحظ بوشكين بأكثر من ثمانية وثلاثين عاماً من العمر . لم يكن قدر شاعر إسبانيا الأكبر غارسيا لوركا مغايراً لأقدار غيره من شعراء المصائر الفاجعة عبر العصور . فلوركا الذي احتفى بجمال الجغرافيا الإسبانية، وشمس الأندلس المتحدرة من بلاد العرب، والذي أعاد صياغة الأغاني الغجرية والفولكلورية بغنائية جارحة قل مثيلها، سيقضي هو الآخر بالطلقات الآثمة لرجال الجنرال فرانكو، منتصف الثلاثينات من القرن الفائت . يقول أحد مؤرخي سيرته إنه طلب من الضابط المكلف بإعدامه، وهو يقوده مغلول اليدين نحو تلال غرناطة ألا يقتله تحت ضوء القمر الذي كان كامل الاستدارة آنذاك . وحين سأله الضابط عن السبب أجابه بأنه يخجل أن يموت قبالة قمر إسبانيا الذي أهداه أجمل قصائده
وأكثرها اتصالاً بقلوب الأطفال ومخيلاتهم . أما صديقه بابلو نيرودا، أعظم شعراء تشيلي وحامل جائزة نوبل الذي قيل إنه توفي حزناً على مقتل سلفادور أليندي على أيدي رجال بيونشيه، فترجح التحقيقات الكثيرة أنه مات هو الآخر بنوع من السم دسّه له خفية عملاء الديكتاتور الظافر . ليست الأسماء التي ذكرت هي وحدها التي لقيت مصارعها على يد السلطة أو الدهماء الظلاميين، فثمة الكثير ممن قضوا دفاعاً عن أوطانهم ونصرة لقضاياها . لكن موتهم على أيدي قاتلي شعوبهم أهون وأقل وطأة من موت الشعراء على أيدي مواطنيهم وأبناء جلدتهم بالذات . ثمة في القتل الأخير شيء يشبه الانتحار وقتل الرموز وانتقام الأمة من ذاتها في لحظات التفكك أو التخلي أو المفاصل الأكثر خطورة في حياتها . ثمة نزوع مازوشي إلى جلد الذات واستئصال الجانب المشرق في داخلها، لكي يستطيع الظلام أن يفرض “عدالته” على الجميع . وعندما تمر سنوات على الفاجعة تنهض الضمائر الجمعية من غيبوبتها لتدرك هول ما فعلت، وليتحوّل الناس إلى “توابين” جدد يعيدون للشعراء اعتبارهم ويعلقونهم كالأيقونات على صدور الأوطان .
sh

إقرأ أيضاً

الأكثر زيارة

Developed by MONGID | Software House جميع الحقوق محفوظة لـمفوضية العلاقات الوطنية © 2024