حنين ونواح- عطاف يوسف
ما أن أوقف "فواز" السيارة، وقبل أن نترجل منها على مشارف قرية لفتا المحتلة عام 1948، حتى بدأ بالنواح، قبل أن يتوقف ويشير إلى بيت بعيد في سفح الجبل قائلاً: "هذا بيت المرحوم جدي".
قرية لفتا كانت تقع على مشارف القدس، وأصبحت اليوم أحد أحياء القدس الغربية، التي أقيمت عليها محطة الباصات المركزية، ولي مع هذه المحطة ذكرى لا تنسى، فهناك ألقي عليّ القبض، وتعرضت لكثير من التعذيب والإهانات.
كلما كنت أمر في طريقي إلى فلسطين المحتلة عام 1948، كانت قرية لفتا تثيرني، وكم تمنيت لو أنني استطعت يوماً دخولها والتجول بين بيوتها الجميلة، التي تبدو للناظر إليها من بعيد وكأنها بيوتاً لم تمس، وأنها صالحة للسكن وعودة الحياة إليها من جديد، لكنني كنت واهمة.
يوم الخميس الماضي تحققت أمنيتي بالذهاب إلى لفتا، فقد تسنى لي أن أكون في القدس، بعد أن حصلت قبل ذلك بيوم واحد على تصريح طبي لمراجعة مستشفى العيون، وقررت أن أبقى في القدس يومين آخرين.
في اليوم الأول جاءت قريبتي نرجس، المتزوجة من رجل من لفتا، وسألتني إن كنت أرغب في الذهاب إلى أي مكان في القدس؟ لم أكن أعلم أن دخول لفتا سهلاً، وعندما سألتها إذا كان بإمكاننا الذهاب إلى القرية والوصول إلى بيوتها والتجول بينها، أجابت "فقط قولي لفواز، فأحب شيء إلى قلبه أن يذهب إلى هناك".
الساعة الرابعة تماماً كان فواز وزوجته نرجس في انتظارنا، وذهبت معة بصحبة أثنتين من أخواتي، إحداهما تسكن شعفاط، والثانية حضرت لمراجعة مستشفى المطلع.
انحرفت السيارة بنا من الشارع الرئيسي إلى شارع مهجور غير معبد، وتوقفت في مكان قريب من أول البيوت. ترجلنا وسرنا بين البيوت القديمة، التي تبدو من البعيد متماسكة وسليمة، لكنها كانت في معظمها بيوت بلا سقوف، أو تهدمت بعض جدرانها، ولم تعد صالحة للسكن لا من أصحابها، ولا حتى من المحتلين.
كنا نتجول مبهورين من فخامة تلك البيوت، التي بني معظمها في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، كلها مبنية من الحجر، ومن الواضح أن أصحابها كانوا يعيشون وضعاً إقتصادياً غاية في الراحة، فالبيوت ليست كالبيوت القديمة في قريتنا مثلاً، المكونة من طابقين، لكنها جميعها غرفة واحدة للمعيشة فوق، أما الطابق السفلي فكان مخصصاً للدواب والماشية، بينما في لفتا البيوت كبيرة وواسعة، وفيها الغرف تصل إلى أربع غرف أو أكثر، وتعلو لتصل الطابقين وأحياناً ثلاثة طوابق. دخلنا أحد البيوت، فكانت غرفه أربعة، يضاف إليها غرفة خامسة على جنب، كانت تعرف بالمضافة. التفتُ إلى فواز، كان يردد نواحاً تردده النساء عندما يموت عزيز وقال: "دمعي على لفتا مر سال"، ثم خنقته العبرات. حاولت تخفيف الوضع عنه، وسألته عن سر البيوت الحجرية، فأخبرني أن أهالي لفتا كانوا يتاجرون بالحجر، فهم من أوائل من اشتغل بهذه التجارة، لذا كانت أوضاعهم الإقتصادية مريحة وبنوا هذه البيوت.
على عكس لفتا كانت "عمواس"، التي هدمها الاحتلال عام 1967، ولم يبق منها ولو بيتاً واحداً، هي وقريتي "يالو" و"بيت نوبا" المجاورتين، واستبدلهما بمتنزه كندا بارك، وهو عبارة عن محمية طبيعية تركت فيها الأشجار تنمو على راحتها.
المرة الأولى التي ذهبت فيها إلى تلك المنطقة، كانت عام 1975 في رحلة مدرسية، ذهبنا يومها إلى دير اللطرون في شهر نيسان، وظل ذلك المنظر الطبعي فائق الجمال ماثلاً في ذهني إلى اليوم، وكنت أرغب بالذهاب إلى هناك حتى سنحت لي الفرصة يوم الجمعة الماضية، حين اصحبتني صديقتي غدير أبو غزالة برفقة زوجها وأولادها وأخيها وزوجته وأولاده.
قطفنا الهليون والزعتر والزعتمانة، وكثير من الأعشاب الأخرى، وكنت سعيدة بجمال الطبيعة وبنوار اللوز، إلا أنني غصصت عندما رأيت أشجار الزيتون المهجورة والمتيبسة، ورغم ذلك لا زالت تحمل حبات زيتون من الموسم السابق، لا أحد يقطفها أو يعتني بها، فرثيت لحالها، وتذكرت أبي الذي كان حريصاً على تقليم أشجار الزيتون والعناية بها، وقبل وفاته بأيام، جلست بجانبه وحملني حملاً ثقيلاً، عندما اختارني من بين جميع إخوتي وأخواتي، وأوصاني بالزيتون، فهل أستطيع أداء هذه الأمانة، في ظل تحكم المستوطنين في الطريق إلى الزيتون؟.