لا تقرأ هذا المقال- د. صبري صيدم
الفضول ذاته الذي دفعكم للإصرار على قراءة هذا المقال رغم عنوانه الواضح والغريب هو ذات الفضول الذي يدعو أبناءكم اليوم للالتصاق بالتكنولوجيا الحديثة ووصول البعض إلى حد الإدمان الكبير والمخيف.
وقبل أن أستطرد في هذا الأمر وددت من خلال هذا المقال أن أنبه لأمر مهم بتنا نعيش تجلياته اليوم ألا وهو استخدام الأطفال المفرط للإنترنت والعالم الرقمي برمته وذلك بغرض حث التفكير المجتمعي للتعامل معه ومع آثاره لا الانتقاص من دور التكنولوجيا المهم في توسيع مدارك المجتمع المعرفية وتسهيل وتسريع وحتى تطوير مشاركتنا النوعية في ثورة التطور المعرفي.
لهذا فإنني حريص في معالجتي لهذا الأمر ألا أعلن الحرب على التطور الرقمي وأنا من المتحمسين جداً له وإنما لألفت الاهتمام مجتمعيا لإساءة استخدام هذا التطور ودخول مجتمعنا في آفة ازدياد الاتصال البشري وغياب التواصل الاجتماعي.
فكم من مرة بتم ترون أطفالكم محدقين في شاشات التلفاز أو الحواسيب التقليدية أو المحمولة أو اللوحية أو حتى هواتفكم الذكية؟ وبماذا هم محدقون؟ وكم نقضي نحن أمامهم لننهرهم عما نقوم نحن به؟ وما مدى درايتنا بما يشاهده الأبناء على شبكة الإنترنت؟ وهل خدشنا جدار طفولتهم عندما لم نراقب نحن ما نشاهده من إدمان واضح للمجتمع على نشرات الأخبار التي تتنافس اليوم في نقل صور الأشلاء والقصف ومشاهد الدماء والنحيب والقتل؟
اليوم ما يزيد عن 78% من أطفال فلسطين يستخدمون بنشاط واضح كل مكونات تكنولوجيا الاتصال في تفوق طفيف للذكور على الإناث. ويركز جل هؤلاء على عالم التسلية الذي يتفوق وبكل أسف من حيث الاهتمام وبأشواطٍ كبيرة على الاستفادة المعرفية التعليمية.
وينتسب 90% من الرواد الأطفال وبصورة تقديرية إلى عالم التواصل الاجتماعي وتحديدا صفحات الفيسبوك رغم منع شروط الشركة انضمام من هم دون سن معين إلى قائمة مشتركيها. وحتى أكون أكثر دقة فإن أطفالاً في فلسطين لا يتجاوز عمرهم 7 سنوات لديهم حسابات مفتوحة على الفيسبوك ويرتادون بحرية كامل المواقع ويشاهدون كل المتاح من الأفلام.
أما ما يشاهده هؤلاء ويتعرضون إليه من سلبيات فحدث ولا حرج لطول القائمة التي تشتمل على الجريمة والعنف الجسدي والمخدرات وانتحال الشخصيات والقرصنة الرقمية والتجارة الجنسية وسرقة الأعضاء وعمالة الأطفال والاغتصاب وسرقة البيانات والفيروسات والقتل وتصنيع المتفجرات والشذوذ الجنسي وسخرة الأطفال والتعدي على الأديان ومشاهد مروعة تكاد لا تحصر.
الغريب في الأمر أن بعض الأهل يعتبرون امتلاك التكنولوجيا في ظل عدم وعيهم بأهمية الإرشاد والتوجيه هو من باب المباهاة والمفاخرة المالية والاجتماعية دون أن يعرفوا سبب بعض الظواهر التي تعتري أبناءهم. لتشمل هذه الظواهر ازدياد الحدة في المواقف وعدم التعاون أو التعامل بجدية مع المتطلبات اليومية كالدراسة والأكل والنوم والميول نحو العزلة وغياب التفاعل الاجتماعي وشح الاهتمام بالرياضة أو بذل أي مجهود يذكر وحتى النحو باتجاه تقليد بعض المواقف التي يقوم بها الكبار.
ويا ليتني أمتلك المساحة الاجتماعية والثقافية التي تسمح لي بالاستطراد في الكتابة عن ما أعرف وأشاهد من أمور محزنة تصل إلى أيدي الكثيرين من الأطفال الذين غابت عنهم المتابعة والإرشاد.
لقد أثبتت التجربة بأن التطور الرقمي في العالم لا يقابل بقدرة مجتمعية ديناميكية لمواكبته ثقافياً. لذلك فإن ما نشهده ليس حكراً علينا بل تشهده مجتمعات عدة. المهم أن نتسلح بالمعرفة والدراية حرصاً على نسيج مجتمعي بدأ يتعرض لظواهر حساسة وبدأ يشهد ظهور سلوك المراهقة في عمر مبكر جداً قد يصل أحياناً إلى سبع سنوات.
السلاح الأهم هو التنشئة وليس القمع الفكري والانفتاح الأسري في نقاش الأمر وتوضيحه لا اللجوء إلى البطش والصرامة. ناهيكم عن الحاجة للدراية بالتقانة والتعامل معها لفهم طلاسمها وعدم خجل الأهل من حاجتهم المتأخرة للتعلم. كما أن العلم بالظواهر أمر مهم لعلاجها بهدوء وتأنٍ وحكمة.
المهمة ليست عسيرة ولا مستحيلة لكنها تحتاج لتدخل سريع وكبير قد يصل إلى الوصول إلى كل مدارسنا والمتابعة مع الأهل والمعلمين وتوظيف سبل الإعلام للتحذير من تبعات الاستخدام الخاطئ للتكنولوجيا.
إن الإنترنت مجرة مترامية من الفائدة لكنها كغيرها من إنتاجات العلم والحياة تحتاج للحكمة في تناول ما تطرحه وتحتاج للدراية والمعرفة بخفايا ما تحمله بصورة تسمح للمجتمع بأن يميز الخيط الفاصل بين السلبي والإيجابي.. فهل وصلت رسالة هذا المقال للذين أصروا مشكورين على قراءته؟
s.saidam@gmail.com