الذين ملوا الحديث عن أوباما- د. صبري صيدم
هناك وعلى الطرف الآخر من الجو المزدحم بالسجاد الأحمر وهدير المروحيات وضجيج الترتيبات وبعد دقائق من هبوط طائرة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في مطار اللد وكلمته الشهيرة هناك، جلست وبمحض الصدفة في معبر بيت حانون على مقعد خشبي محاذٍ لمجموعة من الرجال والنساء منتظراً رحمة مجندة متمترسة وراء مكعب زجاجي عالي التصفيح للسماح لي ولغيري بالعبور إلى غزة.
الرجال اعتراهم الوجوم والسكوت أما النساء فقد اجمعن على أن أوباما لن يكون مخالفاً لسابقيه ولذا اتفقن على أنهن قد مللن الحديث عنه ومنه وتوافقن على ألا يتحدثن عن الزيارة فخال الحضور المستمع قسراً لجمع النسوة هذا بأنهن سيتحدثن حول منافع الدنيا وربما عن أحلام أبنائهن. صديقات الصدفة وبكل أسف انطلقن للحديث عن أمورهن ومصاعبهن الحياتية.
أولى النساء كانت ترافق طفلة بدت وكأنها في السابعة من عمرها عائدة للتو من أحد مشافينا العربية في القدس وقد أنهت هذه الطفلة غسيلا لكلاها بينما راجعت أمها الطبيب للتحقق من سلامة كليتها الوحيدة الباقية بعد أن تبرعت بالأخرى لذات البنت التي كانت تحاول اللعب والضحك أمام جمهور السامعين لكن قواها المتعبة لم وربما لن تسعفها. وما زاد من تعبها كان انتظار رأفة السجان الحاكم بأمر العباد على بوابات المعبر.
ثاني النساء كانت امرأة تحمل رضيعاً حديث الولادة ومعها أمها التي أعلمت بقية النسوة بأنها عائدة لغزة بعدما أجرت للمولود عملية جراحية إثر تشوه خلقي ما. المولود بدا مستسلماً لقدره محاطاً بلفافة الصوف التقليدية التي تجعله يغلي داخلها من شدة دفئها فيستسلم للنوم وسط أنين أمه بأن الحاجز وتصاريح السفر قد هدّا من عزيمتها.
ثالث النساء كانت أمرأة تجر سيدة طاعنة في السن وتحمل لفافة صوف أخرى ضمت مولوداً جديداً ليتضح فيما بعد بأن هذه السيدة هي خالة الطفل التي اضطرت للعودة لغزة لإيصال المولود لوالده وذويه وتعيد أيضاً المرأة المسنة التي انهكها السفر. الأم كانت غائبة قسراً ولم تستطع أن تنضم للركب وبقيت على سرير المرض لإجراء عملية معقدة بعد وضعها للوليد الجديد وتعثر حالها جراء إصابة نالت منها خلال الهجوم الأخير على غزة. بكى الطفل فجأة قاطعاً حوار السيدات وقصصهن المعلنة لتكتشف خالته بأنها نسيت الحليب والماء خلفها. عندها هبت السيدة الأخرى بنخوة فلسطينية معهودة لتسعفها بشيء من الحليب والماء.
وبينما ساد صمت كئيب خلال إعداد غذاء الرضيع الباكي توقفت مركبة حملت سيدة رابعة أنزل ابنها حقيبتها الكبيرة وخارت قواه فانكب على يدها ليقبلها باكياً ويتمنى لأمه عمرا مديداً بمناسبة عيد الأم الذي حل في اليوم التالي مجدداً اعتذاره منها لأن الاحتلال لم يعطه التصريح لدخول غزة معها.
السيدة الخامسة كانت صبية يافعة تحمل وليداً جديداً أيضاً لكنها حملت معه هماً كبيراً أنهك معنوياتها فقضت ساعة الانتظار التي قضيناها جميعاً بدموعٍ لم تتوقف.
المشهد بدا سوداوياً كئيباً مليئاً بانعدام انسانية المحتل ومفعماً بآهات صديقات القدر ممن تركن أوباما وشأنه وطفقن في معركة التخفيف عن الذات عبر مشاطرة الآخرين أحزانهن.
صيحة قطعت حاجز الصمت الذي ساد المكان لثوانٍ يتيمة كان بطلها رجل لم يستطع تحمل المشهد فهب متسلحاً بمنديل في جيبه وذهب مبتعداً لفجاعة المشهد الذي أمامه ليلملم ما يسرت له مقلتاه من دموع وأوجاع. بقية المستمعين الذكور أداروا الوجوه لتغتال فرحتهم دموع الألم لما سمعوه فحاولوا قتل تلك الدموع قبل أن يراها البقية فيشعروا باندثار الرجولة!
عندها فكرت ببارك حسين أوباما من جديد. ربما كان من الأجدى له أن ينضم إلى جموع الرجال الجالسين على مقاعد البؤس التي جمعتنا وسط زوبعة الرمال والأحزان التي عصفت بنا. عندها كان سيعرف الفعل الحقيقي «لواحة الديمقراطية» التي تغنى بها قبل دقائق. الديمقراطية التي اختزلت شعباً بين تلافيف جدار عنصري وصادرت أحلامه وطموحاته فجاءها كثيرون ممن يتغنون برفعتها وحسن أدائها! نعم أهلاً بكم في «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط»!
s.saidam@gmail.com