ضغط ودخان و"إخوان"- عدلي صادق
حول مقالة الأمس، تلقيت استفساراً لافتاً، من قارئ كريم، يستوضح فيه عن خلفية إشارتي الى محاولات "الإخوان المسلمين" في أواخر الأربعينيات، الاتفاق مع الاميركيين على دور يضطلعون به، في المنطقة العربية. وأبدى القارئ العزيز، خشيته من أن تكون الإشارة جزافية، وغير مستندة الى أساس من السرد العلمي للتاريخ.
في الحقيقة، ومثلما أشرت غير مرة؛ إنني في موضوع "الإخوان المسلمين" لا أعتمد على كتابات المناوئين، وإنما على مذكرات الشخصيات التي عملت مع المؤسس والمرشد الأول المرحوم حسن البنا. فشهادات المناوئين مجروحة ومعلومة الدوافع. أما مذكرات الموالين، فإنها موثوقة وتلقائية ولا مجال لإنكارها من قبل "إخوان" اليوم.
* * *
كان المرحوم د. محمود عساف، الذي حلّ في موقع "أمين المعلومات" الى جانب المرشد، وهو سكرتيره وأقرب الناس اليه شخصياً؛ قد نشر مذكراته قبل وفاته بأربع سنوات، وصدرت في العام 1993 عن مكتبة عين شمس، بعنوان "مع الإمام الشهيد حسن البنا". هذا الرجل، روي قصة العلاقة بين المرشد العام والاميركيين، وهي علاقة نشأت بحضوره ومشاركته. علماً بأن هناك تفصيلات كثيرة، وردت فيما كتب آخرون من جماعة "الإخوان" حول لقاءات تمت، بين البنا والخواجات الاميركان، في منازل هؤلاء في حي الزمالك، بذريعة وجوب التحالف ضد اليساريين أو الشيوعيين الملحدين. ويتحدث عساف تحديداً، عن مشروع متكامل، طرحه حسن البنا، للمرة الأولى، في العام 1946 على السكرتير الأول في السفارة الاميركية في القاهرة واسمه فيليب آيرلاند، وملخصه، بلسان المسؤول الاميركي حسب رواية عساف: "أنتم برجالكم ومعلوماتكم، ونحن بمعلوماتنا وأموالنا". والمرشد يرد بسرعة: "فكرة التعاون رائعة، غير أن الأموال لا محل لها، لأننا ندافع عن عقيدتنا، ولا نتقاضى أجراً عن ذلك". لكن حسن البنا، يعود لموضوع المال (كأنه أراد في التمنع الأول، خلق انطباع محترم عن شخصة) فيقول للمسؤول الاميركي، حسب مذكرات عساف في صفحة 14: "لا مانع لدينا من مساعدتكم بأن نمدكم بالمعلومات، وحبذا لو فكرتم بإنشاء مكتب لمحاربة الشيوعية. فحينئذٍ نستطيع أن نُعيركم بعض رجالنا المتخصصين في هذا الأمر، على أن يكون ذلك بعيداً عنا بصفة رسمية. ولكم أن تعاملوا هؤلاء الرجال بما ترونه مناسباً، دون تدخل من جانبنا، غير التصريح لهم بالعمل معكم".
وكان من بين مفارقات وطرائف الاتفاق بين "الإخوان" والاميركيين في ذلك العام، إطلاق عمليات زرع مخبرين من الجماعة، في كافة الأحزاب والجماعات السياسية، وبخاصة اليسارية، وتزويد السفارتين البريطانية والاميركية بما يلزمهما من حصاد العسس. ويروي محمود عساف نفسه، مثالاً تفصيلياً، إذ يقول في صفحة 22: زرعنا أحد شبابنا في أحد التنظيمات اليسارية، وكنا ندفع له راتباً شهرياً قدره خمسة جنيهات. ولما بدأت المعلومات تتدفق؛ كنا نصنفها. فما يصلح منها للنشر في مجلة "الكشكول الجديد" (التي كان يمتلكها عساف نفسه) ننشرها، ومثال ذلك المساخر التي كانت تحدث في فيلاتهم بشارع القصر العيني ويجتمع فيها الأولاد والبنات، يسكرون ويعربدون"!
* * *
تحت ذلك الغطاء الأخلاقي والديني، يأنس المرشد في نفسه الأحقية في مصارحة مسؤول أعلى، هو القائم بالأعمال الاميركي (جيفرسون باترسون) بالقول: "ازددنا قوة ونفوذاً في الشهور الأخيرة، وأصبح عدد الإخوان 600 ألف. وتوجد مجموعة عمل يتراوح أعضاؤها بين 25 و30 ألفاً من الجوالة، وهم منظمون تنظيماً عسكرياً، ويتلقون تدريباً قتالياً إجبارياً، مستخدمين أية أسلحة أو معدات يمكن الحصول عليها"!
هنا، يرد المسؤول الاميركي مستعرضاً معلوماته عن حجم وأنواع تسليح "الإخوان" ويقول ما معناه إن الثقة بيننا قائمة قبل الاتفاق "ففي مناسبات عديدة، اتصل أعضاء من جماعتكم، بمكتب الملحق العسكري الاميركي، طلباً لكتيّبات تتعلق بالأسلحة الصغيرة والتدريب العسكري"!
وفي غمرة البهجة بالوئام، أحس مرشد "الإخوان" أن العلاقة تسمح له بأن يقول للاميركيين: "إن اميركا، تؤيد حالياً، الأهداف الصهيونية في فلسطين. ولذلك يجب أن يكون للإخوان حق الاعتراض على سياستها في هذه النقطة"!
هنا، يتحدد سقف الموقف "الإخواني" حيال فلسطين، وأقصاه الاعتراض، على أن يعلو طنين الخطابة كيفما شاء الخطباء، شرط أن لا يرتفع الفعل عن المستوى المنخفض. وعلى هذا الأساس جاءت المشاركة الضئيلة في حرب فلسطين، بالاتكاء على شباب حزب "مصر الفتاة" وبتغطية جامعة الدول العربية لنفقات التدريب والتسليح وتوفير المعسكر، وفتح باب التطوع لضباط وجنود من القوات المسلحة المصرية، ولهذا الأمر سياق آخر.
حين نكتفي بهذه السطور، يتوجب التأمل وإطلاق العنان للمطابقة بين سلوك "الإخوان" في أواخر الأربعينيات، وسلوكها في العديد من التجارب الماثلة أمامنا: اختراق التنظيمات. تشكيل الأذرع العسكرية السرية. إقامة جهاز أمني خاص، تطيير الإشاعات عن انحرفات مسلكية لدى الخصوم واستغلال ترهلاتهم، والتشهير بهم، متغاضين عن سقطات مسلكية لكبار منهم تحدثت عنها وثائقهم فيما بعد. وهناك التلطي بشعارات قصوى حيال فلسطين، من أجل كسب وتحشيد الناشئة والمتحمسين والبسطاء، بطريقة المبالغة في الحديث عن حالة طهرانية واستشهادية. وتظل التحالفات الراسخة، في جوهر المواقف، مع أصدقاء الغرب وحلفائه وركائزه.
اليوم. المسائل مضاعفة مئات المرات. وللإنصاف، هناك الى جانب الدايناصور "الإخواني" صعلوك فرعي متربح، أغلبه من يساريين سابقين، بدا انهم من فئة "القصر العيني" الفلسطيني، يؤدي مهام مسحية، في لبوس الخدمات الحضارية والإنسانية الجليلة، ويمثل بعض الـ"إن جي أوز" دور هذا الصعلوك. لكن حجم مجهودات العمل على التمكين "الإخواني" لا يُقارن بها شيء. والخصم الشيوعي أصبح خصوماً من المؤمنين والعلمانيين: القوى الشبابية ذات النزوع الوطني للاستحواذ على مقدرات الأمة ووقف استغلال ثرواتها. التوجه الديموقراطي الثوري والنهضوي، الذي يمكن أن يصبح رافعة مشروع حضاري عربي جديد. السلفية الجهادية التي تتفشى وربما تضرب في كل مكان. ويبدو أن شيخ العرابين الذي يربط بين حبات المسبحة، هو ذاك الذي تعمد تصغير القمم وتصفير الوقائع. فهو رجل بارع كالحواة، لدرجة أن الناطقين من الفتية الحمساويين، ضئيلي الثقافة وفاقدي التاريخ النضالي؛ يتحدثون الآن عن ضغوط اميركية "يرضخ لها عباس" دونما مجرد افتراض، بأن يتعرض العراب والنصير "الجهادي" الأعز حمساوياً، لهكذا ضغوط، بينما هو في الاتجاه المعاكس. فلماذا وعلى من يضغط الاميركيون ويطلبون الرضوخ؟ على محرك "المقاومة" أم على مطفىء محركها؟ لعلهم لا يضغطون على المحرك الشغّال، يأساً من قدرتهم على كبح "جنرال موتورز" بينما محركنا المشكوك في جدواه، من خفيف المنتوج الرديء، المخصص للأسواق الفقيرة. لذا يُصار الى الضغط علينا، لكي يُرى دُخاننا ويُشَم!
www.adlisadek.net
adlishaban@hotmail.com