القرضاوي: من شبهة التأويل إلى تأويل الشبهة !... - د. وليد الشرفا
إذا كان التاريخ انفصالاً مكانياً، بمعنى الهبوط من السماء إلى الأرض ـ عقاباً ـ فإن هذا التاريخ الذي مشى على رجليه منفلتاً من عقال العزل، متورطاً بالحدث سيبدأ منذ اللحظة الأولى بالخطيئة والمساومة والثنائية: ثنائية هابيل وقابيل، وثنائية الرفض والقبول في التبادل، وثنائية التمرد والإيمان، والثواب والعقاب، وبداية التاريخ المتكلم الدموي بين هابيل وقابيل، حيث الإلغاء والقتل والشهوة، ومن ثم حضور الغياب بالبكاء والندم اعتذاراً مزمناً وحسرةً أبديةً، من الأخ القاتل تجاه الأخ المقتول.
إن التاريخ تبعاً لذلك لا يخطئ في الإنجاب ـ الحدث ـ لأن الأحداث حالة تكوّن ونمو تتوارد عناصرها بشكل تراكمي وتفاعلي واعتباطي أحياناً، لكن التاريخ يخطئ أحياناً في التربية والتسمية؛ لينتج حتى الآن مواكب مزدوجة تعيد تعريفه بشكل متناقض: هل هو مجموعة من الأحداث ـ المواليد ـ أم هو مجموعة من التسميات خطيئة التربية، تاريخ مكر!.
في تشريح ذلك، فإن التجربة الإسلامية التاريخية عاشت تيه الولادة والتسمية والتربية؛ فولدت "السقيفة" بنتاً للتاريخ، وكذلك الحوار الساخن بين المهاجرين والأنصار، لكن التسمية خرجت متناقضة بين الشورى والفتنة، واستمرت التربية بالنسق نفسه.
بعد تشكيل مؤسسة الحكم الأموي أنجب التاريخ سلالة جديدة من الحروب الطاحنة بين معاوية ومناهضيه، وخرجت ثلاث ولادات، هي: الخوارج والشيعة وبقي المولود التاريخي يحمل مسمى السنة، لكن التسمية أنتجت الفتنة مرة أخرى وأنتجت التربية ثنائية جديدة: الأصل والفرع، ومن ثم حدث تحالف فعلي بين أب التاريخ الذي يضع في رحمه بذرة الحدث، وهم الخلفاء وصانعوا السياسة، وبين الفقهاء الذين تولوا صناعة التسمية والتربية على عقدة الأصل، في حين كانت السماء بصفتها التاريخ الأزلي للوحي تحتج بالحركة الصوفية التي رفضت عمليات "تحميل" الروح ووجع النفس الغرائزية!!.
البلاغة وسلطة التسمية
أستعير من ابن عربي ما قاله في تأويل قوة الطفولة وسلطتها التي تتجاوز المعيارية، وذلك لحداثة قربها من الله، إذ يبتعد الإنسان عن جوهره الرباني كلما أوغل في البعد عمراً، هكذا كانت التجربة الإسلامية بعد وفاة النبي ـ الجوهر ـ وهكذا بدأت عقدة العودة الأصل ـ الله ـ منذ تلك اللحظة وصولاً إلى الأصولية المعاصرة التي تقوم على إنتاج مسمياتها وتأويلاتها حلماً بالوصول إلى المطابقة في المعنى واستحضار الأصل عبر تصفير الزمن لصالح النص في مرحلة، ومن ثم تصفير النص لصالح الزمن.
وسط هذا التشابك يقف الشيخ القرضاوي موقفاً مركباً ضمن أبعاد ثلاثة: فهو الرمز الذي يذيب المسافة بين النص وبين السياسة والحدث؛ لذلك فهو القادر على اختراق المناطق والحقول وخلق الانسجام بينها، وهو الاستعارة الربانية القادرة على صهر المسافة بين المعيار والانفعال واستبدال كل منهما بالحقيقة، باعتبار أن التصور هو الذي يخلق التعريف المشترك ويستطيع التصور أن يعرف نفسه بالواقع بسهولة. أما البعد الثالث فهو وصول القرضاوي نفسه إلى مرتبة الكناية التي تنقل إلى من يجاورها طاقة القداسة والحق باعتباره تجسيداً للتصور وتمثلاً خارقاً للزمن لاستمرار الأصل، وهو تبعاً لذلك الأقدر على إعطاء الآخرين، من داخل الجماعة ومن خارجها، أدوارهم ومراكزهم، فيتجلى شيخاً أمام مجموعة من المريدين الذائبين الذين كلما عبّروا عن انصهارهم ونكرانهم لكبريائهم أمامه ـ تقبيل اليد وقص الأظافر ـ؛ برهنوا على أحقيتهم باستنساخ الدور نفسه ووراثته أمام مريديهم ليصبحوا هم كناية جديدة. وأعادوا التناسل المقدس وعمقوا الانعزالية أكثر فأكثر.
التأويل: المعرفة التي تقتل
يعتبر التأويل أداة منتجة يتم إنتاجها، وهو علاقة معقدة بين النص والزمن واللغة، وهو كذلك زمن ووعي تنتجه اللغة وفق علاقة المغازلة بين الفرد والتاريخ والنص، تتوخى اللقاء الحميمي بالأصل للكشف عن وجه الأول الأصل، وصولاً إلى قتله بالمعرفة، فأصل الشيء: هو قتله علما فعرف أصله، إن هذا التفسير للتأويل يكشف عن معضلة الوجوه والتقلب، إذ كيف يمكن الجمع ين حقلين متضادين: الواقع، الاستعارة ضمن علاقة تنتصر للأصل، الأصل الذي يخول فرداً مسلحاً بالبلاغة والمجاز والباطن، ليصل إلى أول في معنى: عام وغير انفعالي وظاهر، إنها عملية مرهقة بين غواية المحتمل وإلغاء البرهان لصالح الانفعال، ذلك أن الاستعارة لا تنقل أي معلومات جديدة عن الوقائع، بل هي وظيفة انفعالية للخطاب، بالاستعارة من بول ريكور.
في هندسة هذه المفاهيم لا يعطي التأويل للقرضاوي أي قيمة، بل على العكس، فالقرضاوي هو الذي ينتج التأويل ويحدد المسافة بين البلاغة والحقيقة، وبين ما يطابق الحقيقة في الواقع، وبين ما يتنافى معها، لأن القرضاوي هو ابن المؤسسة التي تعطي القداسة أصلاً ـ الإخوان ـ هذه المؤسسة التي تخاطب الناس باعتبارها الدين الغائب المستعد والواجب الحضور، وهي كذلك المؤسسة التي تخاطب المؤسسات وتضع لها الموقع في العلاقة مع الحق والباطل، فيحدث الاستبدال بين الأصل والفرع، بين الجماعة التي سمت نفسها إسلامية وهي بالتالي قادرة على نزع المسميات وإلصاقها متى تشاء، وهي كذلك القادرة على تحديد القرب أو البعد عن الأصل باعتبارها الأصل المتموضع زمانياً بمكان جديد، فهي تأويل وأول، وليست خاضعة للمعيارية إلا في ذاتها، وهكذا يصبح الإسلام الدين الذي كان للناس أجمع رأياً للجماعة في الناس عامة، ورأياً لمؤسسة الجماعة في المؤسسات الإسلامية، فيحدث الاستبدال بين الجماعة والإسلام وبين المفتي والمؤول والله . في صورة من تجلي النرجسية اللغوية التي مسخت الواقع وصيرورة التاريخ لصالح الاستعارات، واستمرار النرجسية المتهاوية بالاتكاء إلى العلم والسياسة في الحوار مع الخصوم، فالجماعة والمفتي يستطيعون التسلل إلى خدر الجماعات الإسلامية الأخرى وعلاقتهم مع الأفكار العلمانية والاشتراكية هي علاقة احتواء ومعرفة تقتل، في المقابل لا يستطيع أي فرد مسلم أو غير مسلم الاقتراب من سور الجماعة النرجسية المتعصبة التي حولت الإسلام من سؤال في الإسلام والرسول إلى سؤال في الجماعة.
الفتوى بصفتها قانوناً للانفعال
إن هذه العملية المعقدة للغنوصية التي حولت الجماعة إلى وصفة للانفعال في علاقة هوس مع السلطة، تقتضي تأجيل الفعالية حتى الحضور، ولأن الحضور نفسه لا يتم في حيز مشغول، كان لابد من أسلوبين لتأكيد الحضور، الأسلوب هو إنكار وجود النقيض أصلاً، أو قتله بالتسمية التي تبطل الشرعية تمهيداً لفعل الإلغاء والحتف باليد، هكذا كانت الجماعة معارضة مقدسة، وهكذا كان القرضاوي المفتي النازع للقداسة والمفرغ الشبهة على جمال عبد الناصر، لأنه يحارب الإسلام ويستورد الأفكار ويدعو إلى المفاسد، ويتحالف مع الشيوعيين الذين كانت أسلحتهم السبب في الهزيمة، هكذا يدمر القرضاوي بفتواه التاريخ والفعل والمواجهة لصالح عالم لغوي متهالك خلقه التعصب ورفض الاعتراف بالآخر، فخلق الفتوى المقدسة باختزال عدمي بين نص الحق ونص الباطل، ولا معادلة تجلب الخير غير الإرادة الربانية المخصوصة بالجماعة فقط.
إن فتوى الابطال المقدس التي جعلت الإخوان معارضة مقدسة، تعود الآن لتسير بعكس سير المنظومة التي حكمت الجماعة نحو أربعين سنة، فالقرضاوي الذي دفعه موقعه المعارض إلى إصباغ الشبهة على أي تأويل يتعارض مع نص الجماعة باعتبارها الأمة المؤجلة، حتى لو كان التأويل محاربة إسرائيل وأميركا وتوزيع الأراضي على الفقراء، كل ذلك باطل لأن النص هو الوكالة الحصرية للجماعة وهو التجسيد المؤجل للرغبة الربانية التي لا تميز بين علماني وآخر إلا بالخضوع للجماعة.
إن تصفير الزمن لصالح النص، يقفز إلى النقيض في العلاقة مع المحافظة على السلطة، باعتبارها الوجه الآخر لبناء الحق الذي لا يتحقق إلا بتدمير سلطة الباطل، ويعود القرضاوي بصفته مرجل الفتاوى والمكثف الذي يحول التاريخ إلى سائل ـ نص ـ وهو نفسه القادر على تحويل النص إلى تاريخ، خدمة للسلطة باعتبارها الغاية والوسيلة، غاية الحكم ووسيلة العدل.
ينتقل القرضاوي إلى تصفير النص لصالح التاريخ، ويعيد تأويل الشبهة ويعيد استبدال دواعي التأويل، ويخلق للانفعال والبلاغة قانونا جديدا، فالشبهة التي لحقت بعبد الناصر لعلاقته مع روسيا ولخطئه في محاربة إسرائيل، تكتسب النقاء بعلاقة الشيخ والجماعة مع أميركا ولخطأ الجماعة في محاربة السلطة الفاسدة، وتذوب عبارات الشريعة وحكم الله والعلاقة مع الكافر، لتحمي سلطة الجماعة في حالة من الهوس والهذيان، هيمنة الفتنة التي تستطيع الجماعة وحدها تعريفها، إن تضخم الذات هذا وضع الشيخ والجماعة مرجعا للرسول، وقوة اللغة السحرية الافتراضية دفعت الشيخ إلى افتراض يمس رسول الله، بافتراض دور له، وهو انه لو كان الآن يشهد ما يجري في سورية لاختار أن يحارب مع الناتو ضد النظام السوري الذي دفعه قانون شحن الجماعة ـ سابقا ـ إلى تسميته بالممانعة واعتباره ممثلا للجهاد، ومثل الشي حدث مع حزب الله الذي دعا الشيخ عليه بالفناء بعد ذلك. عفوك رسول الله.
في اللحظة نفسها كانت الجماعة المتوحدة زمنيا، تنتج فتوى في جغرافيتها التونسية، ضد السلفية الجهادية، إذ كان أفتى الشيخ الغنوشي بأن الجهاد لا يكون ضد موحد، فالجيش التونسي موحد، وإنما يكون فقط ضد إسرائيل، فعلا أن اختلاف الأئمة رحمة بالجماعة، عفوا بالأمة.
القرضاوي: المستشرق صانع المعجزات
في حجه إلى غزة يخترق القرضاوي جغرافيا الجماعة، من الدوحة، مرورا بمصر وصولا، وصولا إلى الجغرافيا الأكثر قداسة وقاموس التسميات الأكثر كرما ـ غزة ـ فالجماعة تأتي والجماعة تستقبل ـ لإتمام مسلسل الاستبدالات، فالقرضاوي وحده أنتج أميركا ممثلا للحق والرجولة، وهي الوحيدة مثل الجماعة تنتج قتلاً مقدساً، ويدعو لها بالخير، ويمتلك إسماعيل هنية صفة المريد المخلص فينتج تحولا استراتيجيا في اللغة، ويرحب بالشيخ بصفته رجل التحول الاستراتيجي في الأمة، إنها مفارقة تشبه التأويل المشتبه فاللغة وحدها التي تناقض الإستراتيجية وهي التي تبنيها، فالاستراتيجية اللغوية الجديدة بنت الجماعة الجديدة الحاكمة، ومثل السلطة المقدسة يحق للحكومات الربانية ما لا يحق لغيرها. فشبهة التأويل مع العدو تنتج تأويلا للشبهة، فروسيا التي دعمت عبد الناصر ضد أميركا سبب في الهزيمة، وأميركا التي دعمت الإخوان ضد أعدائها سبب للنصر.
أما القرضاوي صاحب التحول الإستراتيجي، لغويا يعود لينتج اللغة التي تستمد مفرداتها من لغة الناس، لكن معانيها ليست مستمدة من واقعهم، فالجماعة تصلي على الميت لكنها لا تحييه، بالاستعارة من الصادق النيهوم، هكذا يتناسل القرضاوي لغويا ويعيد إنتاج جغرافيا الجماعة المقدسة، بالتأكيد على أن أهل غزة هم أمل الأمة وليس أهل فلسطين، ويتحدث عن مجازات المقاومة متجاوزا ميثاق الهدنة التاريخي، ولم يطالب حكام مصر بالجهاد لتحرير فلسطين، لقد عاد القرضاوي بالتسميات وأنتج أميركا خيراً والسلطة صلاحا والثورة هيجانا، وهو ما لم يستطع قرنان من الاستشراق إنجازه، انه صانع المعجزات. إن التاريخ لا يخطئ بالإنجاب لكنه يخطئ بالتسمية. أم الأعمال بالنيات والإخوان هم نية الله!!!!.