هنا القدس هنا اختبار الأمة- يحيى رباح
لا يوجد عربي ولا مسلم، إلا ويعلم أن القدس تعيش هذه الأيام ذروة الاشتباك، الاشتباك مع الاحتلال الإسرائيلي بكل مفاعيله من المستوطنين، وجماعات دينية أكثر تطرفاً من التطرف نفسه، وتكتيكات سياسية تقوم بها الحكومة الإسرائيلية مباشرة عبر إداراتها وقوانينها وأجهزتها العسكرية والأمنية، بهدف أقله قطع الطريق على محاولات إحياء عملية السلام، أي قطع الطريق على إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشريف، القدس الشرقية، في الحدود التي أقرتها قرارات الشرعية الدولية وآخرها قرار الجمعية العامة في نهاية شهر نوفمبر الماضي، أي حدود الرابع من حزيران عام 1967.
و الاشتباك الذي تخوضه مدينة القدس في ذروته، يواجه أنماطاً من السلوك السياسي الإسرائيلي أصبح راسخاً منذ الأيام الأولى لانطلاق الحركة الصهيونية، أي أن الحركة الصهيونية سابقاً، وإسرائيل حالياً، توافق ظاهرياً على شيء بينما هي في حقيقة الأمر تعمل على تقويضه تماماً، وجعله مستحيل التنفيذ على أرض الواقع، مستعينة بذلك باختراقات في جسد الأمة نفسها، أو طموحات غير مشروعة عند بعض الأطراف العربية والإسلامية، أو الجهل المطبق بالضرورات عند الطرف الأخر، مثلما يحدث الآن في الحالة العربية الإسلامية الراهنة، حيث الثقافة السائدة هي ثقافة المجرد، ثقافة الغيب التي تعتمد على خطابية الشعار دون أدنى معرفة باحتياجات هذا الشعار على أرض الواقع، فمثلاً، كل الرأي العربي والإسلامي يريد صمود القدس، بل ويصل إلى السماء السابعة في نحت الشعارات التي تحض على هذا الصمود مثل القول بأن القدس وفلسطين عموماً هي وقف عربي، ووقف إسلامي.
و لكن حين تسأل هؤلاء، ما هي احتياجات هذا الصمود؟ ما هي عناصر هذا الصمود؟
يرد الجواب على هذا السؤال، يرجع الصدى كأنه النشيج، يرجع الصدى عاجزاً، وبائساً، وبلا معنى، وبلا حضور، ذلك أن الصمود ليس مجرد كلمات، وليس مجرد تضرع إلى السماء، وليس تكراراً غبياً للحتميات التاريخية المزعومة، بل الصمود هو تفاصيل، ملايين التفاصيل، وهو أفعال، سيل متدفق من الأفعال اليومية، وهو خطط قابلة للتنفيذ، ونسق من السلوك في حياة يومية!!!
و أنا شخصياً أظل أصرخ في الندوات والمناظرات التلفزيونية في وجه أصحاب الشعارات الجوفاء، يا أيها الخطباء، إذا سألتم يهودياً في أطراف قبائل الفلاشا في الحبشة، ما الذي يلزم إقامة الهيكل الثالث المزعوم، الذي لا يوجد فوق الأرض ولا في باطن الأرض دليل واحد عليه، فإن ذلك اليهودي سوف يذكر لك كل التفاصيل لتحويل الوهم المزعوم إلى حقيقة.
بينما إذا سألنا الآلاف من الخطباء، وأصحاب الشعارات الجوفاء في أمتنا العربية والإسلامية، ماذا يلزم للحفاظ على الأقصى القائم أمامنا حقيقة واقعة، فإن الألسنة تتلعثم، والنظرات تزوغ، لأنه لا يوجد ثقافة جادة، ثقافة مسؤولة، ثقافة مقاتلة، بل هي ثقافة المقولات الفارغة المحفوظة عن ظهر قلب ليس إلا!!!
القدس في ذروة الاشتباك بكل ما تملك، رجالها نساؤها وأطفالها يشتبكون وبيوتها التي لا تجد من يرممها تشتبك وتواصل الصمود، مآذنها التي تدعو إلى الصلاة، ومساجدها، وأزقتها القديمة، وحجارتها، وخريطة الإسراء والمعراج من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومن المسجد الأقصى إلى سدرة المنتهى.
القدس تشتبك كمدينة، كإرث حضاري، كجزء من العقيدة، كبوابة لفهم ما يجري من حولنا.
بل إن القدس لا تشتبك فقط مع أعدائها الصهاينة بل مع بعض العرب والمسلمين الذين احتلت عقولهم الإسرائيليات، فأصبحوا ينطقون بها، ويجاهرون بها، ويصدرون بشأنها الفتاوى، مثلما أفتى الشيخ القرضاوي بتحريم زيارة القدس وهي تحت الاحتلال، مقولة إسرائيلية مئة في المئة توضع في فم شيخ ينصبونه على رأس ما يسمى بشيخ العلماء المسلمين.
هل يمكن أن تتغير هذه الثقافة المنافقة؟
هل يمكن أن تتعرض إلى صدمة لكي ينكشف ويسقط كل ما فيها من زيف؟
هناك أمل كبير، ولعل المقدسيين في صمودهم، وفي قدرتهم على البقاء، وفي تفاصيل حياتهم اليومية في قلب الميدان هم الذين يغيرون هذه الثقافة السائدة، ثقافة النفاق، ثقافة تطبيق الإسرائيليات تحت عناوين إسلامية، ثقافة الضجيج بلا فعل، والجعجعة بلا طحين، والأناشيد التي تقاتل نيابة عن أصحابها.
يا سيدتي القدس، يا ملكة الاشتباك في الماضي والحاضر، المأمورة من ربك بتجلي المعجزة، المزهوة بجراحك إلى حد القداسة، أعرف كم تتألمين وأنت وحيدة، وحولك ثغاء كثغاء السيل، زبد يذهب سدى، أما أنت يا سيدة الحضور الخارق، فلك المجد من ربك الأعلى، بأنك تصمدين وتنتصرين وتصنعين القيامة.