صافرة إنذار - عيسى قراقع
في الذكرى أل 65 للنكبة، نسمع صافرة الإنذار، إعلانا إسرائيليا باحتلال فلسطين وتهجير سكانها وتشتيتهم وتطهيرهم من المكان والزمان.
لم نسمع صافرة الإنذار خلال اقتحام مئات القرى والمدن خلال حرب 1948، بل سمعنا صوت الرصاص وهو يحصد الناس ويتركهم أكواما فوق مذبحة، أو هائمين شاردين من الموت الذي لاحقهم.
إسرائيل تعلن استقلالها بصافرة إنذار، متباهية بنكبة الشعب الفلسطيني واحتلال أرضه وذكرياته وتاريخ ميلاده، ومستدعيه في صفارتها كل أساطيرها ومزاميرها المسلحة وهي تقتحم بلدا آمنا، تدمر حضارته وتصادر أسماءه وتجفف ينابيعه وتراهن على تعب الذاكرة.
صافرة الإنذار المرتبطة بالحرب دائما، والمتلاصقة لروح العسكرة والتطرف القومي والاستعداد الدائم للاعتداء على الآخرين، تتكرر على مدار أل 65 عاما من اللجوء الكارثي الفلسطيني، وكأن دولة إسرائيل لازالت قلقلة، تجلس في المعسكر، غير واثقة أن أرض النكبة قد استقرت لها، وان الرماد لم ينطفئ تماما.
صافرة الإنذار: هي قلق الهوية الإسرائيلية الملتبسة ، والتناقض الصارخ بين وحي الخرافة لآبائهم الأولين والواقع الذي لم يجف، فالراوي لم يسكت في الراوية، والشجرة عادت وأطلقت أغصانها في البراري ، فلا الأسطورة اكتملت، ولا الدولة المدنية المفترضة قد قامت ولو إلى حين.
صافرة الإنذار تستدعي الجنود والحاخاميين والأطفال من مدارسهم وأحلامهم، تستدعي القضاة والمحامين والعمال والنساء والمسافرين ، تطلب منهم أن يلبسوا زي العسكر، أن يحشوا المسدس جيدا، أن لا يناموا، لأن الأرض قد تنقلب، ويلتقط الفلسطينيون بصنارة الحنين مفاتيحهم، ويعودوا من خيامهم واثقين.
صافرة الإنذار تعلن عدم وجود سلام في الأرض ولا في السماء ، كل شيء مغلق، البحر مغلق، والطرق مغلقة، الشبابيك مغلقة، وبعد 65 عاما لم ينتصر جيش الدفاع الإسرائيلي على نور البصيرة الفلسطيني، ولم يستطع أن يخرج القرية من خارطتها، أو يمحو الاسم عن قبور تحرسها الغزلان في اليقين.
صافرة الإنذار لا زالت تؤجج روح المحرقة في نفوس الإسرائيليين، ليزدادوا اشتعالا ويشعلون الآخرين، وهي إقرار واضح أن الضحايا الإسرائيليين تحولوا إلى جلادين خائفين لا يرون ضحايا غيرهم، ولا حدود للحوار الإنساني والأخلاقي حتى في القصائد والمدرسة.
صافرة الإنذار لازالت تقول للإسرائيليين لم تكونوا كما أردتكم أن تكونوا ، كلما أقمتم مستوطنة استيقظ الغد لدى الفلسطينيين، وكلما راهنتم على المنفى الثقافي والروحي، اقترب الظل أكثر من الذاكرة الفلسطينية، واشتهى الحاضر ماضيه كما ينبغي من إحساس بالرطوبة والملح وطعم التراب.
صافرة إنذار... تهرب العصافير، تبتعد الغيوم، يتحرك الموت في الأبدية، يسأل الطلبة معلميهم كل الأسئلة العادية عن المكان، يرسمون زيتونة وبوابة وبحرا، بينما الجنود الإسرائيليون يبنون المتاريس العسكرية ، يحرسون مملكة الميعاد ويختبأون خلف الجدار، يراقبون الندى عائدا من ذلك الصيف.
صافرة إنذار لا تُذكر الإسرائيليين بغير فرحهم الرمادي بإبادة قرى فلسطين، وتطهيرها من سكانها، وبتذكيرهم أنهم انتصروا في المعارك ولم ينتصروا في السلام وفي زراعة الأمل لهم ولأولادهم، لم يسكنوا أسماءهم العبرية إلا بالمسدس، لم يهدوا الأرض غير تحيتهم العسكرية وروحهم العنصرية ، والسماء غير صافرتهم الطاردة للهواء والطيور في عزلتهم العالية.
في كل خطوة مطرودة بقي الربيع وراءنا، وفي كل متر مشيناه ودعنا شيء ما ظل يلاحقنا حتى نستعيده، نقتفي آثارنا الأولى والقادمة لأن حياتنا معنا، مكتملين في الإياب والغياب، لا نحتاج إلى خرافة أو دبابة في الوصول إلى المعنى، ولا إلى سيف يحرث كلام الأرض عندما يسقيها المطر.
صافرة إنذار لهم وحدهم كي يملأوا الفراغ الروحي والوجداني ، ليكون لهم أقدام هنا بعقب حديدية، وأسنان لجرافاتهم التي لا تعرف الرحمة، معتقدين أن أرضنا تحتاج إلى كل هذه الغزوات لتغير شكلها وصوتها، لكن أرضنا حبلى بالحكايات، حليبها ساخن ، فلا ترى تحت أنقاض البيوت إلا الحديقة والعشب الطري.
صافرة إنذار ، ليس دوي أجراس تدعو الناس للصلاة في الكنيسة، ولا آذان جامع يكبر في العالمين بآيات الرحمن والمسرة، بل زفير الغرباء عندما تهرب الأرجاء من حولهم ويظلوا وحدهم، لا جمال ولا أغنية، سوى مخيم يطفئ الجوع بالشهداء وأضلاع السناسل .