ابو علي شاهين في فضاء الذاكرة!- يحيى رباح
لا اعرف على وجه التحديد متى التقيت مع عبد العزيز شاهين (ابو علي) أول مرة، ربما في يوم الخروج الكبير، يوم النكبة، الذي لا يضاهيها شيء سوى مشاهد يوم القيامة في الكتب المقدسة.
في ذلك اليوم كان القرويون من ابناء السهل الساحلي الجنوبي قد اخذهم الهول، على حين غرة فلقد تركتهم بريطانيا دولة الانتداب آنذاك لمصيرهم، وتركتهم الجيوش العربية لنهايتهم المفجعة، وكانت المشاهد تليق بفوضى الموت والكارثة، المشوار طويل بلا نهاية، جوع وعطش ورعب والقتلى يتساقطون في الطرقات ولا يحظون حتى بقليل من البكاء، فلقد كان الموت اكثر صخبا على يد العصابات الصهيونية التي تريد ان ترسم مشهد الاقتلاع في افظع صورة ممكنة.
الخارجون من قراهم المهددة بالمذابح –كما في دير ياسين –يفرون منها الى الشرق والجنوب، وكلما تزاحمت طوابير الرحيل المأساوي ازدادت الصورة هولا، قرويون من بشيت ويبنة وزرنوقة والقسطسنة والمسمية والسوافير والبطانة وبيت داراس واسدود والجورة وحمامة ومئات من القرى، كانت بعض العائلات قد فقدت رجالها في معارك الايام السابقة، وهكذا كان شأن عبد العزيز شاهين، والده كان قد استشهد قبل ان يبدأ الهجوم الكبير، وها هو الآن مع عائلته في الطريق الى المنفى، ربما نكون قد التقينا هناك، وعلى كل حال، فان عبد العزيز شاهين (ابو علي) لم يكن يستغرق وقتا طويلا للتآلف معه حين تتعرف عليه أول مرة، تشعر انك تعرفه دائما، وانك لم تنقطع عنه سوى لحظة وانك ذاهب معه الى نفس الموعد.
كما ان كل جيل النكبة الذين كانوا اطفالا حين انخرطوا بقسوة بتلك التراجيديا، ظلت صورة النكبة تعشش في ذاكرتنا، كانت هي الصفحة الاولى وظلت هي المقياس الخارق المتفرد للعدل والظلم للرضى والسخط، للايمان والكفر للمحبة والكراهية، لا شيء في هذه الدنيا كلها قادر على ان يمحو وجعك الأول،وهل يوجد وجع اقوى واقسى وافظع وابشع من ان يصبح الانسان بغتة بين لحظة واخرى بلا وطن مجرد ذرة من غبار عالقة في هبوب الريح ؟
لا تصدقوا ما يقال لكم، فنحن لا نزال في نقطة البداية، ولم نجب عن السؤال الأول: لماذا نحن غرباء، لاجئون، بلا هوية؟ ان كل الاجابات الصاخبة، وكل النصوص المقدسة، وكل الاحتفالات المرتبة، لا تجدي نفعا اذا لم يتم الجواب النهائي على هذا السؤال.
ومثل كل ابناء جيله، خرج ابو علي شاهين الى مجابهة الحياة مبكرا، كانت مدارسنا الاولى مجرد خيام بالية، وكانت مقاعد الدراسة اكياس من القش، وبعد ان استقرت العائلة في رفح في ذلك الشريط المحنوق بين الماء والصحراء في قطاع غزة ذهب للعمل، وقادته قدماه الى السعودية، وفي ذلك الزمن، زمن القيامة من الموت الكامل، كان الفلسطيني يبحث بالتوازي عن لقمة الخبز كما يبحث عن هويته وكينونته، عن سر وجعه، عن صانعي مأساته، وعن دوره في هذا العالم الذي لا يرحم ابدا.
ومن صعوبة تلك الاسئلة والحلحها المستمر الخارق ولدت حركة فتح، من اقسى لحظات انكشاف الحقيقة ولدت فتح من عذاب الجرح، من هول الخطيئة التي ارتكبت بحق الفلسطينيين، من نزيف اقدامهم العارية في دروب المنفى ومن هشاشة خيامهم التي نصبت لهم فوق سوافي الرمال، من نكران اسمائهم وانسابهم وذكرياتهم ولدت حركة فتح، ولم يكن هناك أولى من جيل النكبة بالاستجابة لندائها العظيم.
وهكذا فقد اصبح ابو علي شاهين عضوا في حركة فتح في بداية لستينيات قبل اكثر من خمسين سنة، وفي ذلك الوقت لم تكن فتح مجرد بطاقة عضوية يضعها الانسان في جيبه، بل هي السر الأخطر والوعد الأصدق بألا يبقى الحال هو الحال، ولا تبقى الارض هي الارض ولا تبقى فلسطين وطنا وشعبا وقضية خارج دفاتر الحضور!
خبزنا مر،
وماؤنا ملح اجاج،
وكل شيء لنا من الحق والارض والميراث نخبئه هناك في تلافيف الذاكرة اليقظة، ممنوع ان ننسى، لا يحق لنا النسيان ولا البكاء، بل يجب ان يرانا العالم نصعد الى خشبة المسرح، لنجيد فن الحضور والبقاء، وهكذا التقى عبد العزيز شاهين مع كمال عدوان وعبد الفتاح عيسى حمود وابو يوسف النجار وصلاح خلف وخليل الوزير وممدوح صيدم وياسر عرفات، التقى بهم داخل القطاع وخارج القطاع وكانوا هم ورفاقهم يطرحون الاسئلة بحذر شديد وبصوت هامس كأنه وشيش النار، وكانوا يتبادلون الرؤى والأسرار، كيف نبدأ ومتى نبدأ؟ فليس لنا خيار سوى ان نبدأ، اقدارنا وخياراتنا متلازمة، وهكذا نفذ ابو علي شاهين دوريته الاولى، ودوريته الاولى قادته الى افق ممتد بلا نهاية، فكان السجن الاسرائيلي تجربة كاملة، في زنازين الحبس الانفرادي، في جلسات التحقيق، في العمل والابداع ليل نهار انطلاقا من اصغر اصغر التفاصيل لتحويل السجن من تجميد واهدار للعمر الى ميدان قتال جديد، وهكذا فقد أسس ابو علي شاهين الحركة الفلسطينية الأسيرة، تنظيما كاملا بأرقى اشكال التنظيم، وسلطة كاملة ابتداء من توزيع ما يحضره الأهل لابنائهم في الزيارات على الجميع، الى اكاديمية للتعليم والثقافة السياسية والثقافة العامة، الى حياة منتظمة داخل عنابر السجون، من بداية التحقيق حتى تنفيذ الاحكام الى لحظة الخروج من بوابة السجن، حركة وطنية بكامل هياكلها داخل السجون والمعتقلات من ابداع ابو علي شاهين الذي تلمع عيناه الذكيتان القلقتان من وراء نظارته الطبية السميكة، رجل لا يكل ولا يمل، لا يتوقف عن المحاولة لحظة واحدة، يوزع التعاميم السياسية على كافة السجون، ينفذ البرامج الثقافية، يكلف المساجين بالمهمات، يتواصل مع القيادة العليا برسائل عالية المستوى تحتوي على تقدير دقيق للموقف السياسي، ابو علي شاهين دائما في ارقى حالات الجاهزية.
زرته آخر مرة عندما كان قادما من علاجه في المانيا، فتحدثت معه حديثا مطولا قبل اسبوعين عندما كان في مستشفاه في القاهرة، الكبد متشمع، والطحال والكلى في أسوأ حال، وعضلات القلب منهكة، بينما ذاكرته كانت صافية، ورسائله واضحة، ويقينه ابيض، فقد أدى ما عليه في الحد الأقصى، ابو علي شاهين لا يحب فلسفة الحد الادنى، جرحه الاول يرفض ذلك، وعيه العميق يرفض ذلك.
بالنسبة لفلسطين وعدالتها وحقها وقداستها وآلامها فان ابو علي شاهين لم يكن من دعاة التساهل او التسامح او الضجيج، كان يشبه ذلك النوع الراقي من طائر حفار الخشب، ينقرن وينقر، وينقر في الجذوع الصلبة حتى يحفر لنفسه بيتا، وملاذا، وهدفا، وقضيته تستولي عليه بالكامل، ولم يكن يهدأ قط، حتى وهو تحت وطأة المرض والمعاناة والوجع، كان يبحث عن منطق عميق للاشياء، لماذا يحدث هذا الشيء؟ولماذا لم يحدث هذا الشيء؟ لم يكن ابو علي شاهين يقبل الاشياء على علاتها، انه من فصيلة الحد الاقصى، هؤلاء الذين اجترعوا اشياء وافعالا لم تكن موجودة قبلهم، وهذه هي الثورة، فما بالكم بثورة من أجل ان يكون لنا وطن وكيان وهوية؟ وهذه هي اقانيمنا الثلاثة المقدسة.
صعد ابو علي الى فضاء الذاكرة، تحررت روحه من جسده العليل، مثلما تحرر في المرة الاولى من سجنه، ترك لنا ميراثا كبيرا، كتب لنا في دردشاته رؤى تنفعنا في مشوارنا الطويل وترك لنا نماذج من نضالاته المبدعة في الحركة الفلسطينية الأسيرة، وفي الانتفاضة الاولى والثانية، وفي مجمل حياته السياسية والنضالية، دعونا نقرأ هذه التجربة، ونضيء عليها لصالح أجيالنا.
ويرحمك الله يا صديقي ابو علي شاهين.