في خيمة القذافي- فؤاد ابو حجلة
ليبيا التي تتأرجح الآن على كف القدر عاشت عقودا سوداء في عتمة حكم القذافي، وهي الآن تعيش أياما أكثر سوادا تحت حكم العصابات المتنازعة على مقاعد القيادة في هذه الدولة التي أعادها القمع إلى الجاهلية ويبقيها النفط أسيرة الجهل والتخلف والتبعية الإرادية للغرب.
في هذه الأيام التي تستنسخ فيها الدولة الليبية نموذج العراق ما بعد صدام حسين تسير ليبيا بخطى حثيثة نحو التقسيم الذي سيتحقق بإعلان استقلال بنغازي قبل قيام دول القبائل في باقي أنحاء البلاد.. وكل ذلك يتم برعاية اميركية وتحريض أوروبي ودعم عربي مدفوع بمواقف ثأرية بشعة.
مثل معظم دول ما يسمى بالربيع العربي لم يكن في ليبيا ولاء للدولاء، فقد انتقلت النخب من ولائها للطاغية إلى ولائها للميليشيا، وترسخت القبلية كبديل للطائفية التي تنهش البلاد والعباد في دول عربية أخرى.
ما يجري في ليبيا محزن، لكنه نتيجة منطقية للعبث السياسي والجرائم الأمنية والفساد الذي حكم البلاد في عهد القذافي الذي تحول من ثائر إلى طاغية فاسد بعد الاطاحة بحكم الملك السنوسي وجلوس الضابط الصغير على عرش من رمل الصحراء العائمة على بحر من النفط.
حاولت كثيرا أن أفهم شخصية القذافي ولم أستطع، ربما لجهلي بقواعد علم النفس أو لقدرة الطاغية على الإدهاش المتجدد وإحداث الصدمة تلو الأخرى بقراراته المغامرة وبتصرفاته وسلوكه الغريب.
لكنني اكتشف الآن بعض ما كان خافيا علي من تفاصيل هذه الشخصية الغريبة وأنا أقرأ كتاب «في خيمة القذافي» للصحفي غسان شربل رئيس تحرير صحيفة «الحياة» اللندنية، وهو كتاب جمع فيه صاحبه حوارات صحفية أجراها مع سياسيين ليبيين منشقين عن حكم القذافي ومتحولين اختاروا القفز من تايتانك الزعيم عندما خارت قواه واقترب من السقوط أو الغرق.
في هذا الكتاب يسرد المتحولون بعض تفاصيل تجربتهم في الحكم تحت مظلة القذافي، ويكشفون بعضا من جنونه وطغيانه والكثير من تفاصيل الجرائم التي اقترفها النظام ضد معارضيه من الليبيين الأنقياء الذين رفضوا أن يكونوا أدوات وعصياً في يد الزعيم.
ويضم الكتاب حوارات مع عبد السلام جلود الذي كان الرجل الثاني في قيادة «الثورة» وفي الحكم وعبد المنعم الهوني الذي شارك القذافي في «ثورة الفاتح» وكان عضوا في مجلس قيادتها وعبد الرحمن شلقم الذي سطع نجمه كوزير لخارجية الطاغية وعلى التريكي الذي كان الصوت الهادئ الوحيد في مجموعة الحكم ونوري المسماري الذي كان الأقرب الى الطاغية بحكم وظيفته كمدير عام للمراسم.
كل هؤلاء كانوا مخلصين تماما للطاغية وقد عملوا بكل طاقتهم لترويج نهجه الغريب والتعتيم على جرائمه البشعة، لكنهم في اللحظات الصعبة التي سبقت سقوط ليبيا، وعندما اقتربت سكاكين القذافي من رقابهم اختاروا الانشقاق والتنكر لولي نعمتهم.. وهربوا من السفينة قبل غرقها.
لكل منهم رواية، لكنهم يجمعون على تقييم موحد لشخصية القذافي باعتباره طاغية ومجنونا، ويقولون إنهم تبينوا ذلك من بدايات توليه الحكم بعد انقلاب سبتمبر 1969. ما يعني أنهم عملوا معه ونفذوا أوامره وهم يدركون أنه مجنون ومجرم (بحسب وصفهم)، لذلك لا ينجحون في محاولاتهم لتبييض صفحاتهم والتبرؤ من جرائم النظام.
كنت أتوقع هذا الموقف من أشخاص ارتبطوا بالنظام مصلحيا لكن ما أدهشني هو موقف جلود بالتحديد لأن هذا «الثوري» السابق يعترف علانية بدعمه لايران ضد العراق خلال الحرب بين الدولتين، ويجاهر أيضا بميوله المناوئة للقومية العربية. ويبدو أن هذا الموقف المبطن كان نتيجة فشله في الصراع مع القذافي على قيادة الثورة وزعامة ليبيا.
بالطبع، لا أستطيع اعتبار هؤلاء الخمسة ضحايا للنظام، فهم جلادون شاركوا في قمع الشعب الليبي وتصفية قواه الطليعية وكوادره الوطنية، لكنني أيضا لا أستطيع الحكم عليهم وعلى التجربة بالإدانة المسبقة، فلكل مرحلة ظروفها وشخوصها، ولكل زمان رجال، ولا أشك لحظة واحدة في أن زماننا العربي الذي أخرجنا من عتمة الطغيان القديم يحاصرنا الآن بالطغيان الجديد في «ربيع» يجعلنا نحن إلى الخريف.
في مراحل لاحقة، وفي أزمان جديدة سيقفز آخرون من سفن الطغيان القبلي والطائفي وسنقرأ تفاصيل تقشعر لها الأبدان عن حكم الميلشيات.