أنا والقدس وذكرى الرحيل - د. نائلة الوعري
جلست بالأمس وفي الذكرى الـ 46 للنكسة تلك السنون التي تسللت من بين ضلوعنا ومن أعمارنا كدهر. ذكرى تأبى النسيان ومرارة الغربة والفراق ترافقنا والتاريخ يسجل عددا ورقما يضيفه سنويا الى اجنداتنا المعلقة فوق الحائط في بيوتنا او على مكاتبنا (46) ذكرى النكسة.
أتذكر ويمر شريط تحاصرني الذكريات، القصف الإسرائيلي المروع وأزيز الطائرات فوق رؤوسنا ووجدت نفسي دون شعور أغلق أذني وشريط من الذكريات المحزنة يمر أمامي سريعاً - بعد الحرب بأيام كان يجب أن نغادر القدس للالتحاق بوالدي الذي كان يعمل في عمان ، تجمهرعدد كبير من العائلات المقدسية قرب باب الساهرة كل يودع أحبابه خرجنا انا وامي واخوتي وحملنا بعض الامتعة التي سمحت لنا والدتي باخذها كل واحد منا اختار القليل من ملابسه التي يحبها ويفضل حملها معه. اعمامي واولادهم خالي الوحيد رحمه الله وابناؤه، جيراننا وأصدقاؤنا واذكر جيداً ان عميد آل الوعري الحاج عمر أمين الوعري الذي شغل منصب رئيس بلدية القدس 1951-1953 رحمه الله، كان في وداعنا امام باب الزاهرة.
هجمت علي الذكريات من كل حدب وصوب ، وأعادت عقارب الزمن ستة واربعين عاما عندما كنت اذهب لمدرستي خولة بنت الازور في وادي الجوز مشيا على الاقدام يوميا من البلدة القديمة من داخل السور حيث كنا نسكن في حارة السعدية. إذ تعتبر المسافة طويلة لطفلة في الابتدائي تمشي حوالي (ثلاثة كيلومترات) كان ذهابي إلى المدرسة يوميا والعودة عبر نفس الطريق بمثابة تأريخ للأمكنة.. كنت اطيل التحديق في الأزقة والشوارع والأرصفة وبلاطها العريق ، وأقرأ اسماء الشوارع واسجلها في ذهني واحفظ التقاطعات واستطيع الالتفاف في الشوارع واختصار المسافات ان أردت ولكن كنت اتعمد دائماً ان اقضي وقتاً طويلاً في التأمل بكل ما هو حولي أحدق في النوافذ والأبواب الخشبية المتآكلة والحديدية التي غزاها الصدأ ، ولم يفتني دائما ان اقف امام الأشجار والورود فقد كانت تستهويني وتأسر قلبي، وخصوصا ًأشجار البرتقال والليمون.
كنا نخرج من المدرسة مجموعة بنات وفي الطريق كل واحدة نوصلها الى بيتها في المنطقة المجاورة وفي نهاية مشوارنا بالعودة الى بيوتنا ابقى وحيدة لأن بيتنا ابعد بيت ، اقضي نصف المسافة وحدي اتلهى بقذف الحجارة الصغيرة بقدمي وآخذها امامي ثم اعود لها لأنقلها كما يلعب الأولاد كرة القدم وعندما أتعب أضع حقيبتي جانباً حتى أستريح ، كنت اكثر افراد العائلة استهلاكاً للأحذية فكثرة لعبي في الشوارع وقذف الحجارة بحذائي يهترئ حذائي بسرعة فتتذمر أمي دوماً من أنني أحتاج كل شهرين حذاء جديدا.
اليوم وأنا اتذكر بعد 46سنة، بيتي في القدس ومدرستي وملاعب طفولتي وصديقاتي.. أتأمل أرضاً وبيتاً وسريراً وحوشاً وحارة وشارعاً وباصاً هذه الأشياء التي امتلكتها يوماً ما ، لم تعد لي اليوم.. قدماي درجت لاول مرة فوق ترابها، وكثيراً ما سمعت وقع قدمي تلاحقني في كل مرة أزور فيها بلداً جديداً... وخطواتي فوق أرصفة القدس تطاردني.. ذكريات طفولتي تعود واحلام عشتها ما بين حقيقة وخيال ظللت أبحث عن وطن يشبه وطني، وعن قدس تشبه قدسي... فلم أجد مدينة تشبه مدينتي. لربما هناك مدن في العالم لها حوار وأزقة وأحواش تضيق بها الأنفاس وتصعب الحياة فيها ولكنك تحبها وتعشقها فتعيش وتموت فوق أرضها لأنها الوطن، وهناك مدن تولد فيها وتكبر، وتحلم بالحرية ولكنك تغادرها قسراً وظلماً وتترك في قلبك وضميرك حسرة ما بعدها حسرة وتظل تحلم بيوم العودة إليها أو حتى إلى مدينة تشبهها.
اليوم وبعد هذه الاعوام ما زال حنيني لا يشبه حنين أحد، 46 عاما من الغربة والمعاناة وبداخلي طفلة صغيرة استيقظت من إغفاءتها لتجد نفسها خارج الوطن.. هذه المدينة التي حلمت بها مراراً تستفيق من ذاكرتي اليوم وتفرض علي واقعاً جديداً. يا قدس كم أحبك وأشتاق اليك ظللت سنين طويلة أهتف باسمك وأنا الطفلة الصغيرة التي شردتها القوة الغاشمة. القدس هذه المدينة التي غمرتني شمسها الدافئة.. وأغرقتني أمطارها الغزيرة ولفحني صقيع بردها.. أحببتها بتعلق الطفلة بالأشياء .. وتشبث الشابة بالأمل والحرية... وحنين المرأة إلى الوطن الأم هذه المدينة التي لا تشبهها اي مدينة في العالم رحلت عنها قسراً في العام 1967 وانتظرت سنين طويلة على امل العودة، وما زلت انتظر.