السياسة والرئاسة و"التياسة"!- عدلي صادق
لا غضاضة في أن يكون "إخوان" غزة، متعاطفين مع الرئيس المعزول والمحتجز، محمد مرسي. ولا استهجان ينبغي أن يكون، لهكذا تعاطف معلوم الأسباب. غير أن الحكم في غزة، يُخطئ كثيراً في حق نفسه، بعد كل ما اقترف بحق الآخرين؛ عندما ينصرف عن السياسة، من حيث يفترض أنها معنيّة بالناس ومصالحها وقضاياها، ويظل ماكثاً في مربع "الجماعة". فقد بدا أن هذه هي التي تعنيه دون سواها. يحتفي بها صاعدة في أي مكان، ويتأسى عليها هابطة أو مخلوعة في أي مكان، عاديةً أو مَعْدُواً عليها!
مثل هذه المواقف، قاصرة سياسياً، وهي تليق بأجندات جماعات صغيرة مغتربة في بلادها، تخوض سجالاً مريراً مع المجتمع، ولا تليق بأجندات قوى حيّة وكبيرة، أو أنظمة حكم، أو حتى بمجالس بلدية، تتصدى لواجبات وتحديات وطنية وخدمية. ونقولها للمرة المئة، إن مقتل "الإخوان" سياسياً واجتماعياً، لن يكون بمفاعيل خصومهم ـ واغلبهم قوى هشّة وفاشلة أو مستبدة أو بلا رؤية ولا مناقبية ـ وإنما بمفاعيل أنفسهم التي تقسّم كل شعب الى شعبين، واحد لهم أو معهم، والآخر ضدهم. وبالطبع تصف "الجماعة" من ليسوا معها، بتوصيفات متدرجة، من المُضَلَلين والضالين، وصولاً الى الغليظة والتكفيرية، كتلك التي أُرسلت جزافاً بحق المتظاهرين في ميدان التحرير!
سلطة "الإخوان" في غزة، علقت لافتات ضخمة للرئيس المصري المعزول المحتجز، مع عبارات تأييد له وإدانة لمن عزلوه. واللافتات في العادة، كلما تضخمت لكي تعرض سياسات وليس رموزاً تاريخية أو صور شهداء، تُعد تعويضاً عن ضآلة الفكرة وبؤس المنطق السياسي وتغطية على استبداد أصحابها. ويكفي للدلالة على خيبة العرض الحمساوي لصور مرسى معانقاً هنيّة، ما نلمسه الآن من تأجج الهجمة على الفلسطينيين جميعاً وعلى "حماس" نفسها التي باتت موصوفة على مستوى شريحة من التيار المدني المصري، بأنها "إرهابية" وهذا ما لا ـ ولن ـ نتمناه لها، لكنه يحدث الآن، ويؤسس لمشتركات في المفاهيم، بين إسرائيل، كعدو محتل، وإخوة عرب يُفترض أنهم سندنا، وذلك كله، لكي تحسب "حماس" حسبة "الجماعة" دون حسبة القضية ودون حسبة الجغرافيا المحاصرة والسياسة الواقعية.
ظهر هنية مع مرسي، في الصور المضخمة، التي لا اعتراض عليها في وجود مرسي رئيساً، بل لا اعتراض على ما تنم عنه صور تجمع بين رجلين كأنهما الظافران، سيف الدين قُطز والظاهر بيبرس، يرفع الأول إشارات النصر مع تطيير ابتسامات اليقين بقرب فتح بيت المقدس، ويكاد ينطق الثاني فرحاً بـ "الفرخ" الغزاوي التابع، الذي كان لصيته الجهادي ما جعل طنين الشعوب الإسلامية يدوي كالطبل. ذلك علماً بأن مرسي وهنية، لم يستطع واحدهما ولن يستطيع، إغاثة الآخر. فلا "حماس" لديها ما تفعله لنُصرة مرسي، ولا كان عند مرسي ما يفعله، لـ "حماس" سوى ترطيب خطابه الى شمعون بيرس حتى أصبح لزجاً كمثلجات "رُكب" في رام الله، وأن يتحاشى ذِكر القدس والممارسات الاحتلالية في معظم خطاباته، مقابل أن يحتفظ بالقدرة على التوسط، كلما حَمِيَ الوطيس!
إن موضوع مرسي، شأن مصري داخلي، لا يصح أن تتناسى سلطة الحكم، في غزة وحيث لا ممر الى العالم سوى عبر المنفذ المصري. إن موقفاً كهذا، يمكن أن يزيد من التعقيدات على كل صعيد، وأن يسيء العلاقة مع سلطات مصرية تنفيذية، قائمة ومتنفذة على الأرض، قبل وبعد عزل مرسي!
مثل هذه "التياسة" تظل محفوفة بمخاطر ارتداداتها. وهذا التعبير عن المواقف الحمقاء ليس من عندنا، وإنما وردَ في لقطة مؤلمة من تاريخ المسلمين السياسي المعاصر. فقد كان مؤسس الإسلام السياسي التركي ورامي بذرته في ثنايا المجتمع، المرحوم عدنان مندريس، رئيساً للوزراء قبل أن ينقلب عليه العسكر ويعدموه في أيلول من العام 1961. ومحسوبكم العبد الفقير يحب مندريس لأن فيه الكثير من صفات زعيمنا الشهيد ياسر عرفات الذي أعدمه أعداؤه بالسم. على عود المشنقة طلب مندريس ابنه وأوصاه. كان مندريس وعرفات، تقيان مستنيران، زاهدان، منكبّان على قراءة القرآن، وسياسيان لامعان. بل إن من مفارقات التشابه، أن كلاً من الرجلين، نجا بعد حادث سقوط طائرته. مندريس تحطمت طائرته في ضواحي لندن، فيما هو في سفر لمسعى تصالحي مع اليونان ونجا. ولو عاش مدة أطول، لما أصبحت قبرص قبرصيْن. والثاني سقطت طائرته في صحراء ليبيا، فيما هو يسعى لفلسطين في مناكبها. ولو عاش لما اصبحت السلطة سلطتين. وقد ترجمت الصحافة في تلك السنة وصيته لابنه على النحو التالي:"إبعد يا بُني عن ثلاث: السياسة والرئاسة والتياسة.. ولا بأس أن تقترب من الأولى والثانية في حال استطاعتك أن تتحاشى الثالثة"!
نعلم أن "الإخوان" في كل مكان، رأوا في خطوة العسكر المستجيبة للانتفاضة العارمة في مصر، في 30 حزيران مناسبة لإعادة انتاج "المَظْلَمة" التي كان لها حصادها في صناديق انتخابات عدد من الأقطار العربية. وبالفعل لا صعوبة في تسويق ما جرى كـ "مظلمة" ولكن بالهدوء وبالروح الوطنية، وليس بممارسات تجلعهم الظالمين الذين يمارسون العنف، وليس بالمُضي في تكريس مجتمع موازٍ، داخل المجتمع، وشعب في داخل الشعب، وتعميق ثقافة فئوية، وألفاظ، واقتصاد خاص، وتعليم، وسياق تاريخي خاص ومغلوط، وأنماط ذقون. فليس أخطر من تأسيس مجتمع في داخل المجتمع وشعب في داخل الشعب!
adlishaban@hotmail.com