المقاولة والصيرورة الفلسطينية- عدلي صادق
لم تأخذ مسألة العلاقة بين الأميركيين وجماعة "الإخوان" حقها من التمحيص والتحليل، واختزلها البعض في كونها علاقة قديمة، وفي أنها، من الجانب "الإخواني"، ذيلية وصاغرة ومتناغمة مع السياسات والمقاصد الأميركية في المنطقة، وهذا صحيح بشفاعة شهادات الراحلين من "الإخوان" أنفسهم. غير أن هذه العلاقة، في حقيقتها، ذات نمط خاص ينتمي الى جنس السياسة من حيث هي ممارسة انتهازية. فلا أميركا تحب "الإخوان" ولا هؤلاء يحبونها. والأميركون غير راضين بالطبع، عن ثقافة "الإخوان" ولا عن طموحاتهم على إطلاقها، ولا هم يستغنون عنهم في الوقت نفسه. فالعلاقة من قديم، تأسست لتنفيذ "مشروعات" للتعاون السياسي والأمني. في الأربعينيات، أراد حسن البنا أن تكون مكافحة "الجماعة" للشيوعية وللشيوعيين، ذات منافع شتى، إذ لم يكفه الثواب من عند الله، فتوخى ثواباً من سفارة الأميركيين، ليتأسس "التعاون". وفي مراحل نهوض حركة التحرر العربي، طُلب مع "الإخوان" الوقوف بقوة مع الحكام المرتبطين بالغرب وبالاستعمار القديم، والتشنيع على قوى التغيير بأي كلام من جنس الإلحاد والانحراف المسلكي عن خط الطهارة. وظلت العلاقة بين طرفين لا يحب واحدهما الآخر، شبيهة بالعلاقة بين صاحب مشروعات وصيرورات، ومقاول من الباطن، كريه لكنه بارع. فإن كان الحاكم في بلد، ملبياً لرغبات الأميركيين بحذافيرها، يتعطل الشغل المُجزي لمقاول الباطن، ويبقى شغل "الطقطقة" مع الحرص على الاستفادة من الوقت ومن ظروف الوئام مع الحكم، في توسيع التنظيم وتصليب الأرضية الاجتماعية، والمثابرة على وعظ السمع والطاعة.
لم يسأل أحد نفسه: لماذا كل هذا التمسك بجماعة "الإخوان" من قبل الحكم في قطر مثلاً، وما هو الشيء الضائع للإخوة القطريين، فوجدوه عند جماعة أصولية، يُفترض أن لها رؤيتها الفقهية لمسائل المال والبذخ والإسراف والتمكين للأجنبي؟!
إن أسباب التمسك القطري بـ "الجماعة" تضاهي أسباب الزهوْ القطري بـ "الجزيرة" في معادلة المنطقة وقواها الاقليمية. وربما لا يخطر على بال كثيرين، أن أسباب تمسك القطريين بـ "الجماعة" في مصر، موصول بأسباب تمسكهم بـ "حماس" ليس من حيث كون الطرفين المصري والفلسطيني، سيشكلان بمساعدة المال القطري، مشروعاً جهادياً إقليمياً ضارياً، وإنما لأن هذا المثلث العجيب، سيضمن تسوية هادئة و"نورانية" مشفوعة بأسانيد فقهية؛ لأعقد وأصعب ملفات العملية السلمية بين الفلسطينيين والاسرائيليين. فليس هناك طرف سوى القوى الحزبية الدينية يستطيع أداء هذا المهمة، التي هي جوهر المقاولة الأخيرة المتعلقة بصيرورة الشعب الفلسطيني!
لقد ساند الأميركيون الحكم "الإخواني" في مصر، سراً وعلانية، وأظهروا افتتاناً بصناديق الاقتراع وتظاهروا أنهم مقتنعون بكون مجريات الأمور في مصر أخذت مساراً "ديمقراطياً". وبالطبع هم كاذبون، ولا هدف لهم، بموجب المقاولة الأخيرة، سوى تعزيز حكم "الإخوان" لكي يكونوا قادرين على توسيع قطاع غزة الى ستة أضعاف مساحته من أراضي سيناء، وتمرير ذلك بأسانيد فقهية صحيحة مئة بالمئة، حسب المذاهب الأربعة ومعها المراجع الجعفرية الشيعية. فقد توصل الأميركيون الى قناعة بأن الفلسطيني مهووس بفكرة استرداد أرضه، وربما يكون "حق العودة" هو نقطة المقتل لأي اتفاق، وبالتالي لا بد من خطوة كبرى تتوافر لها مساحة من الأرض مع تعويضات كبيرة، ومشروعات لإقامة مناطق حضرية جديدة، من المدن والقرى، لكي يقطنها اللاجئون، وتحمل أسماء قراهم المنتهبة في وطننا فلسطين!
الأميركيون لا يلعبون. لقد محصّوا كل الأطروحات السياسية، ولم يجدوا أنسب لهم من الصيغ التي يختلط فيها الدين بالحكم. ومعروف أن الدين لا يميز بين أرض وأخرى. إن متراً في إندونيسيا، يساوي متراً في فلسطين. ووطن المسلم، هو حيثما يقيم الناس شرع الله. واللاعب القطري، يعنيه مساندة أميركيا لضمان حماية انفلاته وتميزه وتغطية دوره، وسط عملاقيْن إقليمييْن (السعودية وإيران) ويهمه أن يخدم في الاتجاه الاستراتيجي الأميركي. وواشنطن لا يهمها ولا يقلقها سوى موضوع استقرار إسرائيل. وليس أعز عند أي رئيس أميركي من حُلم جلب "السلام" لإسرائيل. والنقطة التي تعطل تحقيق هذه الأمنية العزيزة، هي فقدان الفلسطينيين لأرضهم، وانحسار ما تبقى لهم في الضفة، واستحالة التوصل الى تسوية بدون أرض للفلسطينيين. من هنا أيضاً، امتطى "الإخوان" في الأردن، حكايات الكاز والبنزين والفاصوليا وغيرها، وأصدروا إشارات خطيرة، وصاروا يقلدون من يريد أن يخلع شجرة كبيرة، فيبدأ بالحفر من حولها والزعزعة!
لهذا السبب، نزلت عملية خلع مرسي، على رؤوس الأميركيين كالصاعقة. وللدقة، يصعب الجزم أن مرسي نفسه كان يعلم المرتجى الأميركي. لكن "الجماعة" تعلم يقيناً، و"الشاطر" الممسك بمفاتيح إطلاق الحشود أو احتباسها يعلم. لقد تعطلت المقاولة الأخيرة، بعد تسليم الدفعات والاستحقاقات الأولى. طُلب من اللاعب القطري، أن يبذل أقصى ما عند "الجزيرة" عبر الشاشة، وإن لم تنفع هذه، عليه أن يتهيأ لوساطة تنعش الطرفين، وتمنح الطرف "الإخواني" فسحة أمل في جولة أخرى. ولهذا علاقة بالمصالحة الفلسطينية، سيكون في موضع سطور أخرى!