أزمة المشروع الديني - عادل عبد الرحمن
في حقب التاريخ الما قبل انتصار الثورة البرجوازية، كانت قوى وعلاقات الانتاج في المجتمعات البشرية كافة مهيأة جدا للتعايش والتجاوب مع الانظمة والمراجع الاتوقراطية. واحتلت القيادات الدينية دون سواها، دور التقرير في مصير ومستقبل الجماعات البشرية في بقاع الارض، لأكثر من اعتبار، منها: أولاً تدني مستوى الوعي المعرفي عموما والسياسي / القانوني خصوصا، بالمقابل اتساع هيمنة ونفوذ دور رجال الكهنوت الديني؛ ثانيا غياب الاطر الحزبية المؤهلة لحمل هموم الجماعات البشرية، وإن وجدت ثورات هنا او هناك، فإنها لم تكن مؤهلة لحمل قضايا تلك الجماعات البشرية، لأن قياداتها لم تكن ناضجة، لذا اتسمت الثورات بالطابع العفوي التمردي؛ ثالثا عطفا على ما تقدم، ضعف وانخفاض مستوى قوى الانتاج، وأثر ذلك على علاقات الانتاج، وانعكاس ذلك مباشرة على مستوى تطور البناء الفوقي.
في أعقاب انتصار الثورة البرجوازية في اوروبا، وتراجع دور الكهنوت الديني، وانفصال دور الدين عن الدولة والنظام السياسي، واقتصار دوره على الارشاد والاحتفالات الدينية في المناسبات، التي تخص أتباع الديانات المختلفة، وبالتالي تعميم نموذجها (البرجوازي) وعقدها الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم، وتسيد فكرة القومية / الامة ونشوء السوق الخاصة بها، مع التطور النسبي للعملية الديمقراطية والحرية الاجتماعية والشخصية، تغيرت معالم وسمات المجتمعات البشرية، وانتقلت الجماعات البشرية الى مرحلة جديدة، مرحلة تكون الشعوب بعيدا عن البعد الديني.
بديهي التأكيد، ان تطور الشعوب لم يكن بوتيرة واحدة. غير ان التشوهات، التي طالت الشعوب المستعمرة والتابعة لدول المركز الرأسمالي (الغربي) لم تحُل دون تعميم النموذج الرأسمالي للحكم في تلك البلدان. وتم تشكيل الدول جغرافيا بعيدا عن البعد الديني، وان كانت بعض الشعوب استثناء في هذا السياق، لكنها لم تحد كثيرا عن السياق العام لتطور البشرية.
النتيجة المنطقية لما تقدم، لم يعد البعد الديني أساساً في تطور الشعوب. وأمست الدساتير الوضعية تشكل الاساس في العقد الاجتماعي بين الحكام والمحكومين. لان مستوى تطور البشرية تجاوز حدود التعاليم اللاهوتية. وهذا لا ينتقص من دور الدين في حياة الشعوب، لأن العلاقة استمرت بين الانسان ومعتقداته الدينية أو الوضعية. وأمست العملية الديمقراطية عبر بوابة الانتخابات التشريعية والرئاسية عنوان التغيير في النظام السياسي. كما ان الحروب الداخلية (الحروب الأهلية) والخارجية (الاستعمارية) ومستوى تطور الشعوب واستقلالها السياسي والاقتصادي لعبت، وما زالت تلعب دورا مهما في بقاء النظام والدولة او عدمه.
انطلاقا مما تقدم، فإن فكرة الاحزاب الدينية، من حيث المبدأ فكرة رجعية. حتى ان الاحزاب الاوروبية، التي حملت أسماؤها صبغة دينية، لها برامج وضعية، وتعتمد في علاقاتها مع طبقات وفئات الشعب هنا او هناك على الدساتير الوضعية، وتخلت كليا عن فكرة الحكم الديني، وتلتزم بالخيار الديمقراطي ونتائج صناديق الاقتراع، لأن الشعوب الاوروبية او غيرها من الشعوب المتطورة دفعت فاتورة غالية من الضرائب نتاج الصراع بين القوى العلمانية والطاغوت الديني، حيث إستمر الصراع قرابة ثلاثة قرون من الصراع الدموي بين الكنيسة والقوى الثورية، حاملة مصالح وأهداف شعوبها.
إذاً محالاوت القوى الدينية في العالم العربي والعالم الاسلامي بناء أنظمة سياسية دينية، هي فكرة عقيمة، تتناقض مع مستوى تطور البشرية؛ لا بل هي ارتداد عميق للخلف، ونزوع لنشر وتعميم الافكار البائدة والظلامية. لأنها (القوى والاحزاب الدينية) لا تملك برنامجا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا قادرا على محاكاة مصالح هذا الشعب او ذاك. لا بل إنها باعتمادها على البعد الديني، تكون مباشرة عملت على تقسيم وتفسيخ النسيج الوطني والاجتماعي، وتضرب جوهر الهوية الوطنية. ولعل التجربة الماثلة في الثورات العربية المختلفة المصرية والتونسية والليبية والسودانية والصومالية وقبلها جميعا الفلسطينية، تشير بوضوح للمنحدر، الذي سقطت به القوى الاصولية الاسلاموية.
ومطلق أي نظام سياسي اعتمد خلفية له على البعد الديني، ومنها إسرائيل وباكستان وايران وتركيا، مهما ادعى انه حامل للهوية الوطنية ولمصالح الشعب، فإنه يخدع نفسه ولا يخدع الشعوب وقواها الحية. فإسرائيل على سبيل المثال لا الحصر، رغم ادعائها اعتماد الخيار الديمقراطي وإجراء الانتخابات التشريعية الدورية، ومع انه مضى على تأسيسها ستة عقود ونصف، إلا ان البعد الديني والطائفي والمذهبي، باتت جميع هذه المظاهر تنهش المجتمع الاستعماري، وأخذ الصراع بين العلمانيين والحريديم (المتدينين) يتفاقم يوما تلو الآخر. ولولا الصراع القومي مع العرب عموما والفلسطينيين خصوصا، لتهاوت الدولة الصهيونية منذ زمن. ومع ذلك، فإن الصراع على هوية النظام السياسي الاسرائيلي تتجه بقوة نحو التفاقم، وفي وقت غير بعيد ستنزلق إسرائيل الاستعمارية الى مستنقع الحرب الاهلية في حال هدأت جبهة الصراع القومي.
والشيء بالشيء يذكر، فإن القوى الدينية، التي وصلت الى سدة الحكم في مصر وفلسطين (انقلاب حماس على الشرعية الوطنية 2007) وتونس والسودان وليبيا، أكدت باليقين القاطع، انها لا تملك الكفاءة ولا المقدرة السياسية والاقتصادية والقانونية على تبرير سياساتها العدمية، أضف الى ان القوى الدينية الاسلامية واليهودية (في إسرائيل) مع الفارق النسبي بين اتباع الديانتين، اعتمدت التبعية السياسية لقوى الاستعمار الغربية الاوروبية والاميركية. ونشأت تلك القوى مرتبطة بحبل سري مع الغرب منذ كانت مجرد دعوة وفكرة كما جماعة الاخوان المسلمين والجماعات الصهيونية.
إذاً الأزمة لدى تلك القوى عضوية (بنيوية) وعميقة عمق نشوئها ووجودها في هذه الساحة او تلك. وما لم تغير تلك القوى خطابها ، وتعتمد برنامجا وضعيا قادرا ومؤهلا لمحاكاة مصالح الشعوب وتطورها، فلن تتمكن من مواصلة الحضور والبقاء في الفعل السياسي ولا حتى الديني، لأن رؤيتها متناقضة مع شعوبها، التي تعيش بين ظهرانيها.
a.a.alrhman@gmail.com