للعثور على باب البيت- احمد دحبور
اذكرعن احدى القصص القصيرة لكاتب سوري معروف، ان صاحب البيت قد تاه عن عنوان بيته، فما ان عالج القفل بالمفتاح الذي معه، حتى اكتشف ان المفتاح لا يعمل، وحين اعاد المحاولة اكتشف انه امام الباب الخطأ. فأين هو باب البيت؟
هذه القصة البسيطة المثيرة، قفزت الى ذاكرتي منذ فترة قريبة، حين قصدت جريدة الحياة الجديدة لاسلم ادارتها زاويتي الاسبوعية، فلم اجد احدا؟ وفيما كان ذهني يتراوح بين تلك القصة وبين عالم كافكا، انقذني احد العاملين في الجريدة، ولا ادري من اين انبثق. لكنه فسر لي ذلك الاشكال بأن يوم الاحد عطلة اسبوعية، ولما قلت له اني آتي الى هنا كل احد، ضرب على جبينه متذكرا انها عطلة العيد. قلت: ان العيد انتهى، فقال: كل عام وانتم بخير، ثم انه اخذ مني الزاوية التي قلقت من ان يفوت ميعاد نشرها.. ومضى الى حال سبيله.
وقد فتحت هذه المفارقة باباً في ذهني لاسئلة متلاحقة: هل يعقل اني بعد اقامة ثمانية عشر شهرا في رام الله اضيع الطريق؟ واذا افترضنا اني اضعتها فهل اضاعها سائق الاجرة الذي اوصلني؟ ولكنني وصلت اخيرا، وبقي السؤال الطريف: هل يمكن ان انسى هذا العنوان الذي اتردد عليه اسبوعيا؟ لا شك انه الشرود والسرحان في الملكوت، ولكن مع ذلك لا بد من تفسير؟
ساعتها تذكرت جملة قرأتها في صباي للكاتب الايرلندي لورنس داريل، تقول ان المدينة في الغرب مصممة تصميما هندسيا، فشوارعها خطوط وزوايا مدروسة، اما المدينة الشرقية فهي اشبه بالتكوين البيولوجي من حيث تداخل بعضها في بعضها الآخر. واذا كانت هذه النظرة الاستشراقية قد جرحت في حينها كبريائي واعتدادي الشرقيين، فقد احرجني انها لم تبعد عن الحقيقة كثيرا، وعن طريق التداعي العفوي تذكرت مقولة رديارد كبلنج: الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا، ولم ألبث ان وافقت على هذه المقولة مع التحفظ من اسرافها في المباعدة الجائرة، اذ ان الانسان هو الانسان وقد يتيه احياناً سواء أكان في سويسرا ام في بلاد تركب الافيال، ولكن هذا التحفظ لا ينفي حقيقة وجود ثقافتين مختلفتين محكومتين بالجغرافيا والظروف الموضوعية.
كم يبدو مضحكا ان تتسابق هذه الافكار الى ذهني، بسبب مصادفة عابرة اوهمتني انني اضعت الطريق، ولا اريد ان اتفلسف - مع انني اخشى حدوث واقعة التفلسف فعلا - ولكن الذهن الانساني مرشح باستمرار للشرود والاستطراد والاسئلة.
وبالعودة الى الفارق بين البناء الهندسي المتقن كما في اوروبا، وبين التركيب شبه البيولوجي للمدينة الشرقية، ارى ان هذا التمييز الجائر يغفل عن خصوصية كل من الانموذجين، وهي خصوصية تتعلق باحتكار المعنى، فكثيرا ما يتم التبسيط خلال الثرثرة اليومية، فيتساءل شرقي ذو ثقافة مذعورة عن احقيتنا في الحضارة بالنسبة الى الغرب المتقدم، وكأن الثقافة اليومية السائدة متحالفة مع ذلك التمييز مستسلمة له، ولانه لا بد من ثأر ثقافي، فقد يشيع القول احيانا اننا معشر الشرقيين اغنياء بالروح والمشاعر والعواطف، خلافا للغربيين الماديين القساة.. والواقع ان في هذا التبسيط النظري عنصرية مضادة، لاننا معشر البشر، كما تقول امهاتنا، كلنا اولاد تسعة، ولا احد يوجد متفوقا على الآخر الا بثقافته واخلاصه للبحث والمعرفة، وبالعمل الدؤوب الممنهج الذي لا يعترف بأفضلية جنس او جنسية.
وبعيداً عن ثنائية الشرق والغرب، تعالوا نتفق على ان الحذر من الآخر امر مألوف في الطبيعة الانسانية، وقديما قال آباؤنا ان الانسان عدو ما يجهل، ما يعني ان المعرفة عن كثب تزيل الحواجز وتفضي الى الثقة والحوار بدلا من الخوف والحذر.
ومن هنا كانت الثقافة مدخلا الى الفتح المعرفي، اذ اننا كثيرا ما نزور بعض البلاد لاول مرة فنكتشف اننا نعرفها جغرافيا وطبائع، لا لشيء الا لاننا سبق ان اطلعنا على عوائد تلك البلاد وطبائعها من خلال التواصل الثقافي. فالحدود الصارمة يمكن ان تمنعني من دخول بلد ما، لكنها يستحيل وجود ذلك الشرطي العالمي الذي يمنعني من اطلاع الواثق على خارطة ذلك البلد او اي بلد. لا اريد من هذا ان التمس العزاء لنفسي عن عدم تجوالي في كثير من الاقطار، اذ ان المعرفة ميدانيا ونظريا، تظل هي توق البشر منذ ان اكتشفوا انفسهم، الى مزيد من السفر ومزيد من ملامسة الواقع باليد، ومزيد من الاكتشاف المتجدد..
اين باب البيت؟ لا عيب في السؤال وان كان معيبا ان تكتفي بسؤال العاجز الجاهل، اذ لا بد من طرق الباب، وقراءة المكان، واستنفار غدة المعرفة وآليتها.. وبهذا الاستعداد وحده يمكن الاهتداء الى الطريق.