عبير يوسف سكافي ونهر الموت البطيء
عبير يوسف سكافي ونهر الموت البطيئ
بقلم الأسير المقدسي: حسام زهدي شاهين
29-4-2011
سجن أوهلي كيدار- بئر السبع
جلست بجواره، أنبث أحزانه من محاجر عينيه، فإن لم ينفجر الآن، ويعبر عما يجيش في صدره، سيقتل نفسه بصمته القاتل، فلقد سبق وأن تعرض قلبه لنوبة صمت "عبيرية"، كادت تصادر منه حياته، كنا حينها في سجن ريمون الصحراوي.
فلما نجحت وإنتبثتها، نفحت كلمات الحب من شفتيه ممزوجه بالشوق والأسى: عبير هي صوت المسيح في جمعته العظيمة، التي تأج فيها إلى ربه بتراتيل المحبة والقيامة، هكذا قال. وعندما نظر إلي بعينيه الساجيتين اللاتي بدأت تحور فيهما دموع القهر والغضب والعذاب؛ هدر كموج البحر، وقذف بكلماته المتحشرجة على شواطئ مسامعنا كأشلاء سفينة التهمتها لجة المحيط، وكأن لسان حاله يقول لنا، وقد حطت على رؤوسنا الطير: من منكم يستطيع أن يمنحني لحظة دفئ أو برودة من عبير الحية الميتة أو الميتة الحية التي إبتلعها زجاج الزيارة قبل أكثر من سنتين؟! هذا الزجاج أشبه بنهر الموت البطيئ، لقد شاهدت عبير وهي تغرق فيه في ذلك اليوم المشؤوم، سمعت صوت إستغاثتها: بابا... بابا، ورأيت يداها الطفوليتان ترتدان بمشاعر محطمة كلما حاولتا تجاوز سطحه المميت، والقاتل للإنسانية، ومن على الضفة الأخرى إستمتُ لنجدتها، ولعجز يداي المكبلتان بالأصفاد والحديد عن إنتشالها، ألقيت لها قلبي كطوق نجاة، إلا أن موجاته الزرقاء الحاقدة، كانت أقوى من إرادتي وإرادتها، وسحبتها لغياهب المعاناة! وألقت بي على قارعة الدعاء والأمل، فياليتني خسرت قلبي في ذلك اليوم ومنحتها الحياة!!!
صمت مجدداً، ولكن هذه المره ليس كأي صمت، إنه الصمت الثائر المتمرد، الذي سرى قشعريرة في أبدان الجالسين، لدرجة أننا سمعنا خرير صوته المتألق كقطرات الندى المتلألئة وهي تُقبلُ وجنتيه، فأن تسافر في قلب يوسف الإنسان، لابد وأن تكون صلباً حتى تقدر على إحتمال أشجانه.
فعبير هي البنت البكر لوالديها، هي حلم الخطوبة وفرحة الزواج، واحدة من ثلاث شقيقات مّن الله بهن عليهما مع بداية الألفية الثالثة، وعلى التوالي تأتي شقيقتيها فلسطين ومن ثم تحرير، ففلسطين الوطن لازال يعبق عبيرها في ذاكرة شعبها جيلاً بعد جيل، ولا زالت تنبض ثورة حتى التحرير، هذه هي المعادلة العائلية الكفاحية التي إنتهجتها أسرة "أبي رباح" كنموذج مصغر عن العوائل الفلسطينية المناضلة.
كان والدها مطلوباً لقوات الإحتلال، وعندما يشده جيل الأبوه لإحتضان إبنته وتقبيلها، كان يمتطي صهوة المخاطرة، ويتسلل إلى بيته ليختلس من هذا الزمن المقهور بالإحتلال بضعة دقائق ليحياها بجوارها، لدرجة أن علاقتهما باتت أشبه بتعلق الأكسجين بالماء، فما أن يدخل البيت حتى تهاجمه حبواً وخطراً، فخطواتها الصغيرة يحكمها التعثر، وتتشبث به بقلبها قبل يديها، يداعبها قليلاً حتى تقهقهه، ويستلقي على ظهره موحياً إليها بالنوم... وكأنها تشعر بوقته المفخخ بالإحتلال... تسارع إليه، تضع رأسها على صدره، وتفرد ذراعيها وجسمها الصغير فوقه، موعزة إلى والدتها بإبتسامة رقيقة، أن إطمئني فأنا أحميه بجسدي! وعلى أنشودة المحبة التي تغرفها إليها دقات فؤاده تُسّدل جفنيها وتغفو بأمان.
فذاكرة "أبو رباح" تتوقد وجعاً هذه الأيام، وتسافر به على بساط الشوق إلى تلك الأيام القليلة التي مشوذ بها إبنته بشغاف قلبه، ودنا صوب أحلامه. فها هي زوجته الصابرة تنتظره بعد غياب عدة أشهر وهي تنحنئ له في محارة قلبها مفاجئة ستسعده، فما أن وطأت قدماه عرصة البيت حتى غمرته بدموع الطهارة! وبادرته إلى البوح بسرها، فهي تعلم أن فتيل الزمن لديها قصير جداً، ولا يكفي لسد رمق المعاناة والتعب، طلبتا منه الدخول إلى الغرفة المجاورة، دخلا بسرعة وأغلقا الباب من خلفهما، لحظات سريعة وإذا بطرقات خافتة تقرع الباب:- مين؟
- أنا، إتح ماما باب.
- مين إنت؟
- أنا عبوره.
إنتفضت كل مشاعره دفعة واحدة، ولايعرف إن كان فتح الباب أم إخترقه، ولكنه وجد نفسه يحتضنها بين ذراعيه ويمطرها بالقُبل، فوقع كلماتها على مسمعه فجر في وجدانه حباً جديداً لم يعهده من قبل، ودق في مهجته وتد الأبوة! وإنتزع من رجولته إعترافاً بالحسرة على ما فاته من بهجة ولادة الحرف الأول، فهو يعتبر أن فرحة ولادة الحرف الأول على لسان الطفل، كفرحة ولادة المولود الأول للزوجين!!
وتدور عجلة الزمن مسرعة باتجاه المجهول دائماً، فسقط يوسف فريسة الإعتقال، ومضى على وجوده ثلث عام قبل أن يتمكن أحد من زيارته، وفي زمن الفلسطينيين كثيراً ما تتبدل الأدوار، ومنها أن يلعب الطفل دور رعاية والده، فاليوم زيارة الخليل؛ وقد جاء إسمه من بين الأسماء المحظوظة التي تمكن الصليب الأحمر من إستصدار تصاريح زيارة لعوائلها، بدأ يحضر نفسه، ويرتب أفكاره لهذا اللقاء الصعب من خلف القضبان، فإذا كانت الوالده أو الوالد، أو هما معاً، فهذا يستدعي مسار حديث معين، وإذا كانت الزوجة والأطفال فهذا يتطلب مسار آخر... وبعد إنتظار ربع ساعة في غرفة الزيارة، والدقيقة هناك توازي عمر بكامله، بدأ الأهالي بالتدفق إلى داخل القاعة من الناحية المقابلة، وعينا "أبو رباح" كعيني نسر ترصدان كل الوجوه الداخلة، بتمعن وحرقة لمعرفة من جاءه، أوصدت الأبواب ولم يشاهد أحد، وراحت كل عائلة تأخذ موقعها قبالة إبنها الأسير، ويا لشهقة المفاجأة! فإذا بعبير إبنة الخامسة تقتحم المكان، ورأسها الشامخ كنرجسة تكتشف الحياة بتفحص وجوه الأسرى بحثاً عن والدها، حتى بلغت الشباك الذي يقف عليه، تسمرت في مكانها وهي تنظر إليه !! أحقاً هذا هو والدي! إنه يشبه الصور التي تملأ جدران البيت!!
هو تجمد في مكانه مُبرشحاً إليها بنظرة، وإنعجن الزمن في ذاكرته، وذابت مسارات مخططاته كقطعة ثلج من حرارة الموقف، وفي رأسه تزاحمت الأسئلة على بوابة التخوفات: هل ستعرفني؟ هل ستتقبلني؟ ماذا سأقول لها وتقول لي؟ وكيف سأشرح لها هذه الحالة؟!
ضجيج الزيارة من حولهما متواصل، وهما محاطان بصمت المحراب، غير أن تكتكة ساعة قلب يوسف تخفق بوتيرة متصاعدة، وتتوسل عبير، أن ترفع آذان الحنان وتنطق بكلمة السر! تمر الثواني بعمر الدقائق، والدقائق بعمر الساعات، فالزمن في عالم الإنتظار هو غير الزمن الذي نعرفه! فكيف إن كان الإنتظار في زمن مُحتمل؟!
إنسلخت دقيقتان من عمر الزيارة، بل من عمريهما، وهما لايزالان كصورة في إطار، ففي ذلك اليوم أنقذت عبير والدها الذي كان يغرق في نهر الموت البطيئ، ونفخت في روحه أنفاس الحياة بشفتيها القرمزيتين وهي تصرخ بأعلى صوتها: بابا، بابا!! وتقافزت في مكانها، وفوق الكرسي، وأمام الزجاج كحسون صغير يتطاير بين الأغصان، واغرورقت روح والدها بفيض الأبوة، والتحمتا بالزجاج الذي ذرفت عينية سيلاً من الدموع!!
وفي نيسان آل سكافي إجتمع الموت بالحياة، فيالى قسوة القدر، فروح عبير الطاهرة إرتقت إلى ربها في ذكرى عيد ميلاد شقيقتها تحرير، ليترك القدر إرثه القاسي في حياتهم، ويدمج المهد باللحد في ذكرى واحدة، ويبقى السجن يمتص رحيق الأبوة من جسد أسرتهم المعطاءة!.