لغة سفلى- عدلي صادق
ذات يوم، في لبنان، قيل لمحسوبكم إن تظاهرة سياسية ستقوم، للاحتجاج على موقف سياسي لملك عربي، فتحمست للمشاركة. وفي الموعد المحدد، تجمع المشاركون وكان حضور الجنس اللطيف كبيراً ولافتاً. تحسبت في لحظة قلق، من أن تغلب النعومة، ويطغى التهذيب والطابع الحييْ للأثنى، على فعالية الاحتجاج فيفشل أو يَبهُت. غير أن الذي جرى، هو العكس تماماً، فقد تدفقت الماجدات بعبارات نافرة، لامست فرضيات وتقوّلات، تتعلق بالصفات الشخصية، للرجل المطلوب هجاء موقفه، ومن بينها ما يمس الأعراض والآدمية. تدفقت الناعمات بغليظ الكلام الذي يُذكّر بالنكاح أكثر مما يذكّر بالسياسة. أحمرت وجوه الذكور، وخَفَتَ صوتهم الى ما دون مستوى المواء. والعبد الففير الى الله، لم يكن يعرف المرأة، وإن كان على شوق لمعرفتها، ويتحرى هلالها. عندئذٍ استبدت به خشية من ولوج عالمها، حتى إن رزقه الله بخليلة من خارج التظاهرة.
كنا، يومذاك، في مخيم الرشيدية جنوبي صور، بينما التظاهرة التي لبينا نداءها كانت في بيروت. فضاء الرشيدية كان مسكوناً بالمحاولة الأولى لتأسيس موطئ قدم للأصولية الإسلامية في الحركة الوطنية الفلسطينية، وكان محسوبكم منجذباً الى ذلك الفضاء صديقاً للأمير الشيخ رزق إبراهيم. انسحب أخوكم من بين ذلك الجمع في هدوء، فليس ثمة داع لاحمرار الوجه خجلاً. نفر من دُهاة المجربين هم الذين ظلوا منتعشين ويعلو صوتهم، أما المجربون باعتدال، فقد ظلوا يموءون كالقطط!
عندما يحتج الآدميون على موقف سياسي، يُفترض أنهم يعترضون على منظومة وعي وعلى منظومة أخلاق. والمنحرفون في السياسة، لا يستهلون انحرافهم بالغليظ المنتصب من عبارات تعكس انحراف وعيهم، وإنما يختتمون انحرافهم هذا بإطلاق اللفظ وتحريره من كل الضوابط. فكيف يحتج الآدمي، على موقف، بعبارات ربما لم يبلغ سوّيتها المنحرف في السياسة؟!
سمعت أن هناك تظاهرة وقعت قبل أسابيع في رام الله، وتخللتها عبارات نافرة، للاحتجاج على موقف سياسي، وعلمت أن الأنثى كانت هي المنتصبة في المقدمة، والأعلى صوتاً. بعض الأصدقاء دعاني الى الاطلاع على الأمر، من خلال شرائط "فيديو" على "يو تيوب". لم أرغب في الذهاب الى المشاهدة، لأن العقد ما زال سارياً، بيني وبين الأنثى الهادئة الحييّة، والمسيّسة، بغير مصطلحات المناكحة والذم الضاري لذكور السياسة، دون الاقتصار على ذم مواقفهم. ذلك علماً بأنني ممن لم يستسيغوا الذهاب الى المفاوضات قبل تثبيت مرجعياتها المُلزمة. فالصبر صفة بشرية، عرفتها الأنثى في الحمل الذي تهيأت أثناءه لعناء الولادة. وقيل عن المفاوضات، أن لها سقفاً زمنياً يساوي مدة الحمل الطبيعي وهي تسعة أشهر في أقصاها، وهذا محتمل في أوقاتنا التي مكثت في الفراغ، طوال مدد الحمل في عشرين بطناً!
من حق الناس، أن تطل بين الحين والآخر، للتذكير بالفجوة بين محددات القضية ومدركاتها، من جهة، وما آلت اليه السياسة من جهة أخرى. الأولى عادلة ومنطقية وأخلاقية، بينما مآلات السياسة ظالمة ومخادعة وبلا أخلاق. ولا معنى لأن يختلط بمن يضطلعون بِنُصرة الأولى، لدحض الثانية، بشر ينطقون سياسياً من تحت "الزنار". وحتى عندما تكون البنت الصبيّة، ثورية حتى النخاع، يظل وضعها حساساً يتطلب الحشمة في اللفظ وفي الحركة. فعندما أنتجت ثورة مصر وربيعها، برلماناً أصولياً، أحست معه الأنثى الثائرة أن الانتفاضة قد اختطفت؛ جرى سحل بنت متظاهرة لم تنطق بحرف تحتي واحد. خرج نائب سلفي كذاب، على وسائل الإعلام يدينها وهي أصلاً محجبة انكشف بعض صدرها عند السحل. ومن بين مسوّغات الإدانة التي رآها الشيخ عادلة، قوله متسائلاً: ولماذا تخرج، وهي ترتدي قميصاً بأزرار "كباسات". بعد أسابيع، كبست الشرطة على الشيخ المسمى علي ونيس مع بنت في سيارته على الطريق العام. كان يكشفها من تحت، فيما النقاب على الوجه مُحكم الإغلاق بغير "كباسات". سقطت منظومة وعي وأخلاق الشيخ، وكانت تلك من إرهاصات التراجع الذي انتهى بإقصاء البرلمان ورموز الاختطاف. أما البنت، فباتت ملتصقة بمنظومة الثورة. لو أنها كانت تهتف تحتياً، لانضمت الى الشيخ وشريكته في السيارة، ليسقط ثلاثتهم. انضمت هي الى حركة "تمرد" التي جمعت ملايين التوقيعات بتهذيب شديد، وانحاز المصريون لأصحاب الكلمة النظيفة. فالكلام البذيء حجة على أصحابه ونقمة عليهم. ما زالت شعارات "الإخوان" الهجومية على الجدران، تخوّن وتمس الأعراض وترمي الخصوم جزافاً في أخلاقهم وفي مقاصدهم، وبدت هذه إحدى أفدح حماقات "الجماعة". إن الكلام البذيء يطيح بصاحبه، مثلما يضيّع الكلام التحتي سحر الأنثى.
adlishaban@hotmail.com