لا رحيل الا الى الجليل- احمد دحبور
هي الشائعات المشوبة بالمخاوف، تتسلل الينا بحذر، فنستقبل اخبارا متقطعة عن اعداد من ابناء شعبنا اللاجئين في سورية، يفكرون في، ويعملون على الرحيل والهجرات المرتجلة، الى البلدان الاسكندنافية غالبا، والسويد منها تحديدا.. وانا الذي لا املك معلومات واضحة عن هذا الامر، لا استطيع ان اخفي قلقي وفزعي من شبح نكبة جديدة تلوح في الافق، ولو وقعت هذه النكبة المحتملة، لا سمح الله، لوجدنا انفسنا في اول السطر وكأن عشرات آلاف الشهداء قد ذهبوا سدى، وكأن علينا ان ننتظر ظروفا موضوعية جديدة تأتي من غامض علم الله، لتخرجنا من هذا المأزق التاريخي.
ولهذا فإن صوتا حائرا كصوتي، لا يملك الا شجاعة الاعتراف بقلة الحيلة ازاء هذه المعضلة الوطنية، والتوجه الى النظام السوري - وهو لا يزال في الموقع الوطني المتقدم - عساه يفعل شيئا مما هو قادر عليه لانقاذ ما يمكن انقاذه..
ليس معنى هذا بطبيعة الحال اننا نناشد النظام ان يعلن حربا، او يتخذ اجراءات زجرية ضد من ضاقت بهم السبل ففكروا في الهجرة، ولكنه يستطيع العمل على تخفيف المصاعب التي تكلكل على صدور ابناء شعبنا اللاجئين لديه، واذا كنت لا املك وصفة سحرية لهذا العمل المرتجى، فدعونا نفترض ان سورية العربية التي منحت اللاجئين الفلسطينيين الى اراضيها منذ النكبة، ما لم يمنحه اي بلد عربي آخر، قادرة على مزيد من الدراسة لاوضاع فلسطينيها، والبحث عن السبل الاجتماعية والسياسية والمعيشة، للتخفيف ما امكن من الاوضاع التي تدفع بعضهم الى الهجرة..
صحيح ان ما يجري على المواطن العربي السوري، هو ما يجري على الفلسطيني اللاجئ في سورية، ولهذا ارجو الا ابدو متدخلا في شؤون بلد عربي شقيق وعزيز، اذا حلمت بمزيد من تكافؤ الفرص في هذا البلد العربي او ذاك، لان هذه السياسة العادلة في حال اعتمادها الشامل، يكون من شأن الفلسطيني المقيم، ولو مؤقتا، ان يحظى بنعمائها، فتخف الضغوط الموضوعية والذاتية التي تدفعه الى الرحيل..
ما زلت احتفظ - حسب ذاكرة الولد الذي كنته في الستينيات - بصورة أعداد من الفلسطينيين الذاهبين الى المانيا الغربية، فهكذا كنا نسميها يومها، بحثاعن العمل وابواب الرزق، وكان معظم اولئك الشباب المضطرين لا يفكرون في الهجرة النهائية، بل يحتملون الغربة على امل العودة الى ذويهم بما يسد الرمق ويكفل العيش الكريم. الا ان مياها كثيرة جرت تحت الجسور بعد ذلك في فترات صعبة، فأصبح السفر البعيد لدى بعض هؤلاء العمال، نوعا من الهجرة المستدامة حتى لو لم يعترفوا بذلك.
ولا بد في هذا المجال من الانحناء تحية لفكرة الثورة الفلسطينية، التي نجحت في لمّ شعث هؤلاء المعذبين في الارض، لا بإيجادها فرص عمل ودخلا يكفل الحد المعقول من شروط البقاء على قيد الوطن، بل بتحولها الى وطن معنوي يستوعب الشباب ويعدّهم للعودة الى الوطن الحقيقي الذي القتهم النكبة بعيدا عنه، ومع ظهور الثورة الفلسطينية وانتشارها، امكن لجم مشروع الهجرة والتمييز بين العمل في الغربة مؤقتا ولو لسنوات غير قليلة، وبين الهجرة المستدامة التي كان من شأنها لو نجحت ان تستنزف الجسم الفلسطيني الباقي على امل العودة..
ولهذا فإن ما يلوح في بعض الافق من شائعات ومخاوف، حول استعدادات غامضة لدى قليل منا للهجرة الى السويد وغير السويد، هي شائعات تنذر بنكبة جديدة.
صحيح ان سورية الآن تعاني من مشكلات بهذه النسبة او تلك، لكن الصحيح ان زمن الهجرات قد ولى، ودعونا نتفق على ان الثورة الفلسطينية المعاصرة، لم تغفل اكثر او اهم من الغاء مشروع الهجرة، بمعنى انها ثبتت ثقافة البقاء في مواقع اللجوء، تمهيدا للعودة المأمولة، حتى ان مجرد الصمود في وجه مغريات الهجرة، كان بحد ذاته شكلا من اشكال المقاومة، فكيف والامر في الحالة السورية مرتبط بالاقامة المؤقتة في قطر عربي ظل يعاملنا منذ النكبة معاملة مواطنيه في الحقوق والواجبات؟
«من هالبراح ما في رواح» هكذا كان آباؤنا يرددون على مسامعنا الغضة، اي اننا باقون حيث نحن، واذا كان من رحيل فهي رحلة العودة الى الجليل. اما الشائعات الشائنة بخصوص الهجرة الى اوروبا وغيرها، فهي مجرد افكار متناثرة لا رصيد لها على المستوى الاستراتيجي، حيث تظل الثقافة الوطنية التلقائية قائمة على مبدأ: لا يضيع حق وراءه مطالب..