بيان يائس ومليونيات حقيقية- عدلي صادق
فيما بدا أنه رد على تلويح الشباب الفلسطيني الوطني، بموجة «تمرد» عاتية في غزة، لإسقاط حكم «حماس» الاستبدادي الفاسد والخائب؛ جاء تصدير البيان الذي ليس له مستوردون في الداخل، ليرسم صورة كرتونية عن امكانية قيام مليونية في الضفة، لإسقاط ما سماه البيان «سلطة أوسلو».
ففضلاً عن مجافاة كاتبي البيان اليائس (بلغة متقنة) لكل علائم الواقع وتجاهلهم لمحنة غزة ولتحفزها للانفجار، بعد أن أصابها الحمامسة بأمراض «التحصُّر» و«التَسَجُّن» و«التقمُّع» التي يتحدث عنها علماء النفس وعلماء الاجتماع، في رصدهم لظاهرة البؤس، التي يتعود فيها الناس مرغمين، على الحصار والسجن والقمع؛ فإن البيان بليغ اللغة، المتباكي على فلسطين، والذي نشرته «القدس العربي» اللندنية؛ يجعل سلطة الفلسطينيين وحركتهم الوطنية رائدة الكفاح المعاصر «سلطة أوسلو»، بينما التاريخ وواقع انسداد أفق التسوية، في الحياة اليومية لشعبنا في أرض وطنه؛ تفسر جنون المستوطنين من وجودنا على أرض الوطن، وبالتالي من «أوسلو» نفسها، لا لشيء سوى أن الطرف الفلسطيني في اتفاقية إعلان المبادئ، كان وما زال يتوخاها سلطة الدولة الفلسطينية المستقلة، وهو لا يعترف بتنسيب أوسلو لكيانيته، لأن هذه هي عاصمة النرويج، ولأن القناعات الفلسطينية هي أن القدس الشرقية العربية، هي عاصمة دولة فلسطين!
البيان المنشور، ديماغوجي بامتياز. فلو لاحقنا العيّار الى باب الدار، وسلمنا أن هناك «مليونية» ممكنة أضمرت إسقاط «سلطة أوسلو»، وإذا كان هناك ما ومن يقوم كبديل بعد الإسقاط، فإننا نتساءل: هل تقوم سلطة الشعب كبديل مثلاً؟! وكيف؟! إن كان هناك جواب مقنع، فلنكن جميعاً مع هذا القيام بعد السقوط، حتى وإن كان الإسقاط سيصيب سلطة الشعب الفلسطيني وسلطة القدس نفسها، في مرحلة ما قبل بسط سيادة الدولة على أراضيها!
هؤلاء الذين يتعاطون مع الوقائع ومع الخصومات، بمنطق الكيديات البليغة، ويستغلون أحداثاً داخلية كحدث معالجة ظاهرة فوضى السلاح في جنين؛ لا يصلحون لشيء، ولن يفلحوا في شيء. إنهم الكذابون من «الإخوان» المنكشفين، ولا نريد ـ توخياً للموضوعية ـ أن نقول إنهم «الإخوان الكذابون» قاطبةً. فلعل من داخل «الإخوان» من يراودهم الصدق على نفوسهم، ولعلهم يصدقون مع شعبهم وأنفسهم آجلاً أم عاجلاً!
والكذابون، لا بد أن يتغابوا ويتجاهلوا حال الاختناق، وركام الآلام والبؤس وأضرحة مقابر الشهداء الأبرياء في غزة، بل لا بد أن يتناسوا عندما يستغلون وضع جنين، أنهم دحرجوا براميل المفرقعات على مسجد لاذ اليه د. عبد اللطيف موسى وأصحابه، وقتلوهم بالجملة، لأن كبيرهم عبد اللطيف، عارضهم بمجرد خطب منبرية تتمنى إقامة إمبراطورية إسلامية انطلاقاً من غزة. والرجل (وهو طبيب أعرفه شخصياً) لم يكن ملوماً في مغالاته، فهو تأثر بخطباء لا يكفون عن اجزال الوعود بالزلازل، فيما هم يزعمون أنهم وسطيون. رأى ـ رحمه الله ـ وقد أوصله بؤس الحال الى اعتناق سلفية جهادية؛ أن يعلو بالنبرة، طالما أن الوسطيين، يبشرون بهزات أرضية من تحت أقدام الصهاينة ومن يساندونهم!
وعلى من يكذب هؤلاء الذين دبّجوا البيان مقطوع الصلة بالواقع، وهم يتحدثون عن أرض فلسطين الكاملة؟ ولماذا لم يقولوا ما يقولونه الآن عن «التنازل» عندما بعث رئيسهم محمد مرسي، برسالة غرامية لرئيس إسرائيل، وأعرب مراراً عن التزامه بكل حرف من «كامب ديفيد»؟ أم إن الذرائع والحجج، حلال على «الإخوان» عندما تكون غير منطقية وغير واقعية، وحرام على غيرهم عندما تكون منطقية وواقعية؟!
التدبيج المتقن للشعارات والبيانات يحدث في لندن، ويرسل الى الساحات والى وسائل الإعلام العنكبوتية. هم الآن، بمحاولات التمظهر في مصر، يتقاطعون مع احتفالات المصريين بالذكرى الأربعين لحرب 1973 التحريرية. الشعار الوحيد الذي كتب بخط كبير مع رسومات للكف ذي الأصابع الأربع، وظهر على جدار في ميدان رابعة؛ كان بالإنجليزية، لأن اللغة العربية لا تقوى على النيل من مكانة ذكرى تلك الحرب في التاريخ، ولا على طيْ صفحة شهداء مصر والأمة الأبرار. كتبوا بالإنجليزية 6 أكتوبر وتحتها The Game is Over. هؤلاء المعتوهون، يشطبون التاريخ ويهدمون الكعبة ويسفكون الدم ويدفعون بالأغرار لمواجهة جيش بلادهم، ويستعينون بالإرهابيين القتلة، لإزهاق أرواح المجندين البسطاء في سيناء ويهددون استقرار بلادهم، من أجل مرسي ولكي لا يتعطل «التمكين». وعلى قدر ما لديهم من خبث ودهاء، فقد خانتهم عقولهم ولم يدركوا أنهم خائبون حتماً، وأن فض اعتصاماتهم كان بلا حدود، لأن حضورهم السياسي في الشارع، هو التوطئة لبلاء مقيم على الأمة، لن تقف الدولة حياله مكتوفة الأيدي، ولن تنال منه إسرائيل سوى الرسائل الغرامية، ولن تنال منه أميركا إلا العشق!
ماضون على طريق الحرية لشعبنا من أصفاد المحتلين، ولمجتمعنا من كبت الرأي وممارسة الحق السياسي. لا سلطة بلا أخطاء، ولكن العفونة والمروق، أن يخالف «إسلاميون» فتوى ابن تيميّة ووصيته، فيقترفون المفسدة الكبرى، بمحاولات تضييع الكيانات والأوطان لرفع، ما يظنونه «مظلمة» تعرضت لها جماعة ولا تزيد ـ حتى في الشروخات الفقهية ـ عن كونها «مفسدة صغرى». فعندما تتأجج غرائزهم، لا يعرفون شرعاً ولا يتذكرون فقيها. شيخهم القرضاوي، صاحب «فقه الموازنات» الذي أفتى للجندي المسلم في الجيش الأميركي بجواز وعدم حُرمة إطلاق النار على مسلمين أبرياء في الحرب، لدرء ما يظنها «مفسدة كبرى» تصيب مكانة المسلمين في المجتمع الأميركي؛ لم يكن معنياً بتعليم «الإخوان» كيفية التعامل مع قضايا أوطانهم في هذا الخضم العسير. لا سلطة لأوسلو عندنا. سلطة أوسلو في النرويج. والسلطة التي عندنا سلطة شعبنا التي اجتزأ «الإخوان» منها شطيرة، فعطلوا وحدة الوطن وكيانيته، وورقته السياسية، ومساره الديموقراطي، وأعطبوا نسيجه الاجتماعي واقترفوا «المفسدة الكبرى». فعلى هؤلاء يكون التمرد، وضد هؤلاء تخرج المليونيات الحقيقية، كتلك التي خرجت في غزة قبل أقل من سنة!