تمرد- عدلي صادق
كل عام والفلسطيني أقرب الى الرؤية الصافية. لا أحب التهاني السخية ذات الأماني القصوى. لم أبادر الى إرسالها لأي من الأحباء مكتوبة، أما في السفاهة عندما أتلقى اتصالاً؛ فإن موفور الصحة هو الأمنية القصوى. ولعل المرور على ذكر الأمنيات العريضة، يكون بصيغة النسبية، إذ نتمنى مثلاً أن نكون أقرب الى الحرية!
حركة «تمرد» الفلسطينية التي أعلنت عن نفسها، قاصدة أنها بصدد فعاليات عصيان مدني وإظهار الرفض الشعبي لحكم «حماس» في غزة، توطئة لإسقاطه؛ تعبر عن خلجات قلوب الناس التي ذاقت المرارات كلها، قبل وبعد أن أدخلها الحمساويون الى طريق العذاب والعدم، ودقوا الأسافين في مجتمعها، وكرّسوا منطق إهانة الفلسطيني لأخيه الفلسطيني، واستعلائه عليه، لغير ذي سبب، وامتشقوا شعارات «الجهاد» دون أن يجاهدوا عُشر أعشار جهاد الفلسطينيين في ثورتهم المعاصرة، وقتلوا مجاهدين، وخوّنوا مجاميع من الناس، قبل أن يكتشف الكثيرون من أتباعهم كذب ألسنتهم وعفونة نواياهم وضحالة تمثلهم لقيم ديننا الإسلامي الحنيف. فهؤلاء، الزائلون حتماً، حسموا سلباً وتشنيعاً، أمر من لا يتعاطى شعارات «إخوانية» ممن ناضلوا طويلاً على طريق ثورة لها بُعدها الإنساني، لدحر احتلال بغيض، له حلفاؤه الكبار الطغاة، الذين يفرضون وقائع مضادة في الإقليم وفي العالم. وهؤلاء الدجالون، اضعفوا الورقة السياسية الفلسطينية في معترك السياسة فيما شعبنا يسعى عزل المحتلين وممارسة الضغوط عليهم، لإنجاز التحقق الوطني على أرض فلسطين، في رحلة الاتجاه المضاد، لخط الحركة الصهيونية الذي بدأ منذ أواخر القرن التاسع عشر. وهؤلاء الطارئون على الوطنية، الذين لم يتعلموا حرفاً من ثقافتها؛ عطلوا المسار الديموقراطي الذي هو خيار شعبنا، وعلقوا عمل مؤسساته وشقوا أطرها، فلم تعد لنا مرجعيات تشريعية ورقابية وقضائية فاعلة. وعلى الرغم من ذلك، فإن هؤلاء الكذابين، يعالجون الإحباطات التي أسهموا في صنعها بأكاذيب وحيل جديدة، وبالمنطق العدمي نفسه. فحين يلوح فشل عملية التسوية في الأفق، يغترفون من وعاء التعبيرات «الجهادية» كمن يقدمون لنا بديلاً. وكأن الاستنكاف عن القتال، كان جُبناً منا، أو بسبب إنكار الوطنيين لمُدركات القضية وللحد الأقصى من حقنا في أرض فلسطين الكاملة، أو بسبب انحرافات في الوعي والخُلق والدين. وماذا هو بديل هؤلاء الذين زعموا أنهم يمتلكون قوة الزلازل؟! إنه «المقاومة» غير القابلة للشرح، والخارجه من الأفواه، وليس من حسابات القوة ووقائع الخرائط والمعطيات على الأرض. وفي حال كنا دونيين وتافهين وطاوعناهم، ثم تلقينا المزيد من الكوارث، فإن الصيغ والبدائل جاهزة ومعطرة «إسلاموياً». فها هو الشيخ رائد صلاح، المبجّل كثيراً عند حركات البيضة والحجر (وهو مقدّر عندنا في حدود ظروفه) يقوم مع صحبه، على نوع من «الجهاد»، ذي طابع مطلبي، لا علاقة له بالبندقية ولا بلغة المساس بوضع إسرائيل كدولة!
ولأن الزمن وأشعة الشمس، كفيلان بإذابة الثلوج عن كتل الكلام المغلفة بما هو لامع؛ فقد وقف الحمساويون بعد سنوات من الحكم في غزة، مجردين من كل ما هو زائد ومخادع. وليتهم اكتفوا بهذا العُريْ. فقد زادوا عليه ممارسات بطش واستبداد، مأخوذة كلها من تقنيات حكم الاحتلال العسكري: استدعاءات، أساليب توقيف وتحقيق وإدارة وجوه الشباب الوطنيين الى الحائط، ومنع السفر، وعدم احترام تاريخ المناضل الذي أفنى زهرة شبابه مقاوماً أو ناشطاً وطنياً، ولم يحترموا الثقافة الوطنية ورموزها، وحاولوا شطب التاريخ قبلهم. وبأسف مرير أقول، إنهم زادوا على أساليب الاحتلال بعض التصرفات التي اقتضى مكر المحتلين الترفع عنها. ففي بعض الوقائع، لم يحترموا في سجونهم صوم الصائم، ولا مواعيد إفطاره، ولا ضرورة قيامه بالصلاة ولا بضرورة تأدية صلاة الجمعة بعد سماع خطيب، ولم يحترموا سن الكبير ولا تاريخ المناضل الذي أفنى زهرة شبابه في العمل الوطني. هؤلاء المعتوهون، لم يتذكروا أن من يمتهنون كرامته من الناس، هو عضو من المجتمع، وله أهله وأصحابه وتأثيره في محيطه، وأن الحكايات تنتشر، وأن الناس تكظم غيظها الى حين.
أما أطرف المفارقات، فهي أن يكون هؤلاء الذين تحدثوا عن فساد السلطة، الدي تناولناه نحن، في صحافتنا، تفصيلاً وتأصيلاً للظاهرة، داعين الى محاصرتها وشطبها؛ قد أظهروا فساداً وبذخاً غير مسبوقيْن. فبالمقارنة، كانت سياراتنا الصغيرة، هدايا من دول مانحة أهديت لنا كسيارات. أما سياراتهم فقد ابتاعوها بأكلاف عالية عند الشراء وعند الإدخال من الأنفاق، بأموال أهديت اليهم لإغاثة مجتمع فقير ولتغطية نفقات الصمود «الجهادي» خبزاً وطعاماً وطبابة للناس الذين توقفت دورة حياتهم الاقتصادية. أما العدد والنوع، فهما حكاية أخرى لا مجال لشرحها هنا.
نحو ست سنوات مرت الآن. كانت السنة الأولى منها، تكفي لأن يقتنع الناس أن هؤلاء لا يؤسسون لبُنية القتال الذي يتحدثون عنه، وإنما يؤسسون بُنية قهر واستبداد!
في مشهد غزة، تتوافر كل العناصر اللازمة للانتفاضة. لم أستسغ مئة بالمئة، تسمية «تمرد» المنقولة عن تسمية المنظومة الشبابية الواسعة في مصر. ففي مصر، كان الذين انتخبوا «الإخوان» مع من لم ينتخبوهم، قد سجلوا جوابهم على تنصل الذين حكموا عبر الصناديق، عن مبادئ الحكم الديمقراطي الحاضن لكل المصريين، والتي على أساسها جرى الانتخاب. وهذا مطروق في تاريخ الديمقراطيات. أما في وضعنا، فإن الحاكمين انفردوا بالمجتمع وبالسلطة وبالقوى السياسية، بعد انقلاب دامٍ. وعليه، إن ما سيجري ـ عاجلاً أو آجلاً ـ هو انتفاضة أو ثورة، لإسقاط حكم هؤلاء. لكننا سنعتمد تسمية «تمرد» طالما أنها أطلقت، ونتمنى أن يحل الأضحى القادم، وقد زال كابوس «حماس» عن صدر المجتمع في غزة!
adlishaban@hotmail.com