خطيب لا فُض فوه.. من عالم آخر- عدلي صادق
استمعنا بتأنٍ الى خطاب رئيس حكومة الأمر الواقع في غزة، وهو يرسم ببلاغة، لوحة الكمال الجهادي والإنساني والسلطوي. فقد تحدث الرجل، كأنه من عالم آخر، يبشرنا بحالة طوباوية وبسلوك مثالي، على أصعدة السياسة والاجتماع والاقتصاد، وفوقهما «الحرب الإلكترونية» وعلى صعيدي الرؤية والبوصلة بشكل عام. وحيال منطق كهذا، لا يحق لإنسان، أن يتخيل مجرد تخيُّل، أن القائمين على هذه المثالية العُليا، جلابة السعادة القصوى لولا بعض منغصات الحصار؛ يمكن أن يُخطئوا أو أن يأتيهم أي قدر من الباطل، من يمين أو شمال. وكيف يخطئون، والإنجازات شملت كل صعيد، والمواقف لم تحد قيد أنملة عن خط الحكمة والسداد، والفلسطينيون ازدادوا غبطة وعنفواناً، حتى أنهم سيُفاجئون الأصدقاء والأعداء، بقدرتهم «على تحويل التحديات الى انتصارات» مثلما حدث في ثلاث وقائع تاريخية هي «الفرقان» و«سجيّل» وصفقة «وفاء الأحرار»؟! أما «نظافة السلاح» فحدّث ولا حرج طالما أن الحديث ينطلق من عالم آخر، ولا يتوجه الى الناس في عالم الفلسطييين الذين يعرفون أن هذا السلاح، أزهق أرواح مناضلين بالقتل العمد، ومثّل حاملوه بجثثهم، وأطلق بعض حامليه الرصاص من النقطة صفر، على مفاصل الكثير من الشُبان من أبناء شعبهم، فأوقعوا فيهم عاهات جسدية، أضيفت الى العاهات والمصاعب الموضوعية، وتفنن بعض «الطخيخة» بجمع مفصلي اليد والقدم لكي يتهشما برصاصة واحدة!
ولكي لا تنوء قلوب السامعين، بثقل الوصف البليغ للانجاز الحمساوي الإعجازي، وبالبشائر القصوى، أضيف الى خلطة التوصيف الدنيوي، بعض القدري والديني، فكان لا بد من الاستشهاد بآية من سورة «الروم» التي طمأن فيها رب العالمين، بأنه «كان حقاً علينا نصر المؤمنين» وبأنه سبحانه، انتقم من الذين كذّبوا الرُسل، وقد وصف «ابن كثير» ذلك التطمين بأنه «تسلية» من الله تعالى لعبده ورسوله محمد، قوامها أنه وإن كذبه كثير من قومه، فقد كُذبت الرُسل من قبله لكن الله فتك بمن كذبوهم، وأنجى المؤمنين. وفي الخليط الخطابي الحمساوي، هناك خيارات شتى، لعل بعضها الأخير هو المتاح: إن منعوا المدد (في الواقع وفي الحياة) فلن يمنعوا مدد السماء، ولن يُغلقوا باب الدعاء ولا باب الرجاء!
الخطاب من العالم الآخر، بدأ بوصف واقعي لحال القدس، في إشارة الى أنها في موضع الاهتمام الحمساوي الأول، وليس التمكين للجماعة في الإقليم، وليس الحكم. ثم تدفقت الصور والمشاهد التي أريد من خلالها تخليق انطباعات لمشاهدي «الجزيرة» من غير غزة، عن السداد الحمساوي، مع رسائل مباشرة الى مصر. فهم لا يتدخلون. ربما يكون المزوّرون المزعومون لـ «وثائق» فتحاوية تحريضية، هم الذين علقوا صور مرسي والشعارات في ميادين غزة، وهم الذين اعتلوا المنابر للدعاء بهلاك الجيش المصري، وهم الذين يديرون فضائيتين متدخلتين في الشأن المصري على مدار الساعة. إنه الكلام من عالم آخر!
كان هناك، في الخطبة البليغة، تركيز لخلق الانطباع بالغيرة والألم، على فلسطينيي سوريا الذين يغرقون في البحر أو يعانون. في الوقت ذاته، نلاحظ أن من يأنس في نفسه الجدارة والأحقية، لاستنفار المسلمين من «طنجة الى جاكارتا» لا يرَى سوريين يعانون ويغرقون، وكأن هؤلاء خارج الخارطة المستنفَرة، ولا يستحقون التركيز، شأنهم شأن سواهم، عليهم أن يعطوا ولا يأخذون حتى في مصائبهم شيئاً من أهل الفرقانات. فالحكمة السياسية تقتضي عدم التدخل، وبتنا في حاجة الى مراكز بحوث لغوية وسياسية وعسكرية، تحدد لنا معاني مفردات مثل «التدخل» و»الأمة» و»الشعب» و»مواجهة الاحتلال» و»المقاومة» وحدود كل منها وموجباتها ومحاذيرها، في خلطات الخطابة وفي خلطات الإعلام!
إن المصالحة التي تحدث عنها هنية، ودعا اليها عاجلاً، باسم «حماس» التي لا خلاف فيها ولا تعارضات، ولا خلجة استعصاء في غزة، حيال من له السمع والطاعة في قطر؛ ليست سوى مصالحة خطابية. هي مشروطة بالتوافق على «آليات تطبيق» والآليات لها عندهم قراءات ولهم فيها وقائع، والقراءات تتعاند، و»الأجواء الإيجابية» المشترطة، تتلبد بممارسات وتصريحات. ومواجهة الاحتلال مثلما أسلفنا في انتظار مركز بحوث سياسية ولغوية وعسكرية لتعريفها بالمطلق، بحيث تكون سارية في غزة والضفة، وبحيث لا يصيبنا اعتمادها، بـ»فرقانات» أخرى، تتحاشاها «حماس» الآن، وتلح في طلب الإسمنت، وفي مديح الشيخ رائد صلاح المقاوم سِلماً!
كنت أتمنى أن أستمع من هنيّة، الى خطاب أكثر ذكاء، وأقل بلاغة واعتماداً على القول التعبوي الفضفاض، يضع فيه مقاربات للمفاهيم، ويعترف بالأخطاء، اعترافاً سيلقى تقدير الناس، ويفسرها على النحو الذي يطمئن الشعب الفلسطيني على نية «حماس» في تلافيها مستقبلاً. وكنت أتمنى أن يناقش هنية، حقيقة انصراف الناس في غزة، عن تأييد هذه الحركة، بل وكراهية غالبية الناس لها، وأن يُقر بخطأ إظهار التأييد لعودة حكم «الإخوان» في مصر، باعتبار أن إقصاءهم شأن مصري داخلي، وأن ايديولوجيا السلطة، في زمننا، لا تجيز لها أن تكون متخطية لحدودها الجغرافية بمساندة فريق ضد آخر سياسياً وإعلامياً. كانت الرسالة ستصبح أبلغ، لو أنه اعترف بالخطأ ورده الى دوافع عاطفية أفضت الى نطق متعجل. لكن الذي حدث، أن الرجل، تحدث من عالم آخر، موجهاً خطابه الى غير عالمنا، وهنا يكمن جوهر المأزق الذي أنكره الخطيب!