عرفات الرمز واللغز- مهند عبد الحميد
بعد السنة التاسعة من رحيلة ما تزال قراءة عرفات غنية بالرمزية والانفعال والتساؤل، فهذه الشخصية التاريخية لا تختزل بتقييم انفعالي عابر ايجابا أوسلبا. قد يبدو الزعيم معروفا بأهميته لدى خصومه وأصدقائه أكثر، وغير معروف الاهمية عند القريبين والمقربين. ذلك هو اللغز العصي على الاتفاق، وتلك ميزة يكاد ينفرد بها عرفات اكثر من قادة آخرين.
موته معروف وغير معروف والمتهمون مكشوفون ومتسترون في آن. الذين يعرفون يدّعون انهم لا يعرفون، لكن معظم شعبه يعرف المتهم الوحيد بقتله منذ اللحظة الاولى وحتى اليوم الاول من السنة التاسعة لرحيله. ثمة التباس بين محبيه وغير محبيه والذين ركبوا موجة حبه لدواع خصوصية.
كان المطلوب من عرفات التوقيع على حل "الابارتهايد" الفصل العنصري في منتجع كامب ديفيد عام 2000 لتكون خاتمة دوره التاريخي بالمعنى السلبي. وعندما رفض، أصبح "غير ذي صلة" وشطب من المعادلة. كان ذلك بمثابة قتل سياسي معلن. أُتبع بقتل جسدي غير معلن. الذي صادق على القتل السياسي لا شك انه شريك في القتل الجسدي. استدراج عرفات الى شرك كامب ديفيد كان الفصل الثاني من حرب تصفية القضية ورموزها.
الفصل الاول كان اتفاق أوسلو الذي غامرعرفات به معتقدا انه سائر الى الدولة. اعتقد عرفات انه لاعب يستطيع تغيير قواعد اللعبة متى شاء ولكن سرعان ما اسقط بيده مرة تلو الاخرى. فعلى هذه الارض قواعد اللعبة لا تتغير بالبساطة التي تغيرت فيها في لبنان والاردن وسورية.
ادوارد سعيد المفكر الذي ابدع في تفكيك سياسة وثقافة الغرب الاستعماري عارض عرفات وحاول ثنيه ولم يفلح. والنخبة المحيطة بعرفات لم تتعرف على فكر سعيد واسهاماته التي تركت بصماتها في كل مكان ما عدا بلد المنشأ لافكاره، فلم تحاول النخبة فرملة عرفات بل شجعته على المضي في المغامرة دون حساب او تدقيق.
يندر ان يتم التعامل مع حل صراع مزمن ومعقد عمره قرن ونيف من الزمان بالطريقة التي تم التعامل بها مع حل الصراع الفلسطيني- الاسرائيلي في كامب ديفيد 2000. فقد حشر عرفات في المنتجع لمدة زمنية مقطوعة - 3 اسابيع - وطولب بتأييد مشروع "الابارتهايد" أو تحميله مسؤولية الفشل النهائي. تبع ذلك القول "بعدم وجود شريك فلسطيني" وتلك كانت كلمة السر التي تبعها صعود شارون وحلفه اليميني المتشدد الى سدة الحكم. ويندر ان يتم منح الرئيس عرفات جائزة نوبل للسلام وبعد سنوات تقرر حكومة شارون "إن عرفات عقبة مطلقة في طريق المصالحة بين إسرائيل والفلسطينيين، وان الحكومة الاسرائيلية ستتحرك لإزالة هذه العقبة بالشكل والتوقيت وبالطرق التي سيتم اتخاذ القرارات بشأنها بشكل منفصل". وتحركت حكومة شارون فعلا فقامت بحصاره ثلاث سنوات، وحولت مقره أطلالاً، وفرضت عليه اشد انواع الحصار والعزلة.المفارقة هنا، هي التأييد الاميركي وبمستوى اقل التأييد الاوروبي "لازالة العقبة المطلقة التي جسدها عرفات" والتصديق المعلن على حصاره وعزله. هكذا تحول عرفات من "إرهابي" إلى رجل سلام يتحصل على جائزة نوبل للسلام ثم يتحول مرة أخرى إلى "إرهابي" يعاقب بالقتل دون محاكمة. حدث كل ذلك دون أن يرف جفن أو يحركوا ساكنا للذين منحوه الجائزة وللذي تقاسم معه الجائزة.
إن الموقف الاسرائيلي والاميركي والاوروبي من عرفات يلخص موقفهم الفعلي من حل القضية الفلسطينية وهو حل "الابارتهايد" الذي صممته إسرائيل وسعت الى فرضه. واكبر دليل على ذلك هو تعميق الاحتلال والاستيطان والابتعاد بالطول والعرض عن الحل السياسي بعد "إزالة العقبة المطلقة التي جسدها عرفات". ولا يغير من هذه الحقيقة لجوء عرفات للمقاومة المسلحة ودعمه الكامل للانتفاضة الثانية ومحاولته الحصول على السلاح " سفينة كارين A “.لان عرفات تراجع عن كل ذلك وأبدى الاستعداد لاستئناف العملية السياسية ووافق على "خارطة الطريق". كما ان قيادة محمود عباس وافقت على استئناف المفاوضات واختارت الطريق السلمي الكامل. وكانت النتيجة مضاعفة الاستيطان وتعميق الاحتلال في الضفة والامعان الاسرائيلي في فرض حل من طرف واحد الانسحاب من غزة بمعزل عن السلطة والقيادة التي لم تشكل "عقبة مطلقة امام المصالحة الاسرائيلية- الفلسطينية".
اقتنعت أجزاء من النخبة البيروقراطية الفلسطينية ومراكز قوى داخلها أن عرفات فوت فرصة الحل السياسي وان كل شيء سيكون على ما يرام في مرحلة ما بعد عرفات. بعض هؤلاء حاولوا ان يقدموا نوايا حسنة لادارة بوش الابن في " اجتماع عمارة العار " اثناء حصار عرفات في المقاطعة. لكنهم سرعان ما تبعثروا وتراجعوا ولم يتراجع اعتقادهم بأن عرفات فوت فرصة الحل الامريكي إلا بعد ان دمر الامريكان فرصة حلهم المنشود بأيديهم.
مؤسسات فتح والمنظمة والسلطة التي غصت بالتشوهات، نسبت الى عرفات الذي عرف عنه عدم الاقتناع بالمؤسسات. السؤال ما هو واقع المؤسسات بعد تسع سنوات من غيابه؟ هل اصبحت افضل حالا، هل انتهت ظاهرة الولاء والمحسوبية في التعيين والترفيع؟ إن النظام الفلسطيني بمختلف مكوناته يقاوم التجديد ويرفض الخروج من براثن البيروقراطية المتكلسة،بل يعيد انتاجها بصورة اكثر تشوها. وطالما بقي النظام على هذا الحال فإن حالة الاستقطاب ستكون أمام احتمال عزل الجيل الجديد عن تراث عرفات الوطني بما هو محطة تاريخية مهمة في النضال التحرري الفلسطيني، الذي لا يمكن فصله عن النضال الوطني الراهن كما يفعل الاسلام السياسي والاتجاهات الشعبوية.
البعض يتعامل مع عرفات كأب بالمعنى البطريركي، عوضا عن التعامل معه كأب بأدوار متبادلة، فالابناء في مرحلة معينة يتبادلون الدور مع آبائهم، يعلمون آباءهم ويصوبون أخطاءهم، وبهذا المعنى يتوحدون معهم فتأخذ الحياة دورتها الطبيعية المتطورة والصاعدة في تعاقب الاجيال. البيروقراطية المشوهة تعزل الاجيال الجديدة عن تراث عرفات الوطني وتقدم لهم تراثه المؤسسي بصيغته الجديدة الاكثر تشوها. غير ان هذا يدفع الامور باتجاه تجاوز البيروقراطية بربيع فلسطيني ينتصر فيه الابناء للاباء وفي مقدمتهم عرفات ويقيموا المؤسسة الجديدة بدماء جديدة بعيدا عن الابوية بما في ذلك ابوية عرفات.