عصبون صَرّة- د. أحمد جميل عزم
قال لي إنّه كان، قبل الثامنة صباحا في أول سيارة فوق "الشريعة" (نهر الأردن)، ورأى جُنديا صهيونيا، يكاد "بنطاله" ينزلق، والبندقية تزنّره، يَفتَح قِفِل بوابة الحدود. أخّرهم الإسرائيليون دقائق، قال إنّه خالها دهراً. لكنه ّوصل قلب رام الله الساعة العاشرة والربع صباحا، متأخراً قليلا عن الموعد الذي أخبرته عنه.
أول زيارة له (أول "عودة") إلى فلسطين. في العاشرة والنصف كنّا مع صديق ثالث في الطريق إلى عنبتا لنصطحب صديقين من هناك. وهاتفنا الحافلة لتقلنا.
كانوا على وشك الوصول إلى نابلس، عندما شاهدنا الحافلة، وافقت وزميلي العائد، على اقتراح الصعود إلى الحافلة، كنّا نعتقد أن عدد ركابها نحو أربعين، وفيه متسع. كنت أريد تجربة صعود حافلة مع عشرات من عرابة، وسخنين، وعكا، والجديده، وطمرة، والرويس، وحيفا، والطيبة، وقلنسوة، وكفر قرع، وأم الفحم، وعارة، وكابول، وآخرين من فلسطين المحتلة عام 1948. شعرنا بالحرج ونحن نجلس مكان ركاب اضطروا للوقوف، فالعدد مكتمل - نحو خمسين.
انتظرتنا أكثر من مركبة على بوابة قرية "صَرة". اثنتان تُقلان آخرين سينضمون لنا، وواحدة من أبناء القرية، لتأخذنا إلى مكان العزاء. كان أهل الشهيد حسن الترابي، الذي قضى إثر وفاته بمرض السرطان بعد أن كان أسيرا في سجون الاحتلال وأهمل الإسرئيليون علاجه، ونَعتهُ حركة "الجهاد الإسلامي" في انتظارنا. في الواقع كان المشهد مذهلا، مئات من أهل القرية يرحبون بـ "أهلنا" في الداخل، التقى الكف بالكف مئات المرات. كانوا يرحبون بعكا، وحيفا، والجليل، عبر الأهل القادمين. سيطرت عليَّ دلالات المشهد: آتٍ من الشتات لتوه لزيارة قد لا تتاح له ثانية ويلتقي أهل الشهيد، وفلسطينيو 1948، وأهلٌ من جنوب وشمال ووسط الضفة الغربية. عدتُ إلى دروس الأحياء، وتساءلت هل هذا هو "العصبون"؟ أم هو جديلة أعصاب جسد واحد كامل، تنعقد معاً، وتتكثف في نقطة واحدة، تجتمع فيها المشاعر والأحاسيس. في ذلك الصباح كانت "صرة" نقطة التقاء أعصاب جسدٍ واحد. بل كان معنا سيدات من أوكرانيا وبولندا من زوجات أهالينا في الداخل، إحداهن على الأقل تتقن العربية.
كان هناك سؤال محرج، هل تدخل السيدات والصبايا ديوان العزاء ذاته المعد لاستقبال الرجال؟ كانت الإجابة، من "الأهالي – الأهل"، نعم. وكانت هناك فتاة ستدعى للحديث أمام الجميع.
في مساء اليوم السابق فوجئ منظمو الرحلة باتصال هاتفي من صديقتهم "إيليان"، تخبرهم أنّ أختها "روان" كانت الممرضه الشخصيه للشهيد البطل في مستشفى العفولة، وأنهن يرغبن بالانضمام للرحلة لتقديم واجب العزاء، فروان الممرضه ترغب بالتعرف على روان، اخت الشهيد التي حدّثها عنها. حينها نزلت دمعة من عينين في سخنين. وعِندما رأى والد الشهيد، روان بينهم، لم يتمالك نفسه، ودمعت عيناه. أُلقيت كلمات، واحدة القاها أسير محرر من الداخل، ختمها بالقول "عاشت فلسطين حرة واحدة"، وعزّتهم روان.
لاحقاً توجهت الصبايا في الوفد الى بيت الشهيد، استقبلتهن أم الشهيد وسيدات القريه، وروان اخت الشهيد. لم نحضر تلك اللحظات، لكنهن لم يتوقفن عن الحديث عن هذا الموقف المؤثر، ورأينا صور الابتسامات والدموع.
لم يع أحد كيف مرت ساعة ونصف في اللقاء. وبينما كنا نصعد الحافلة، أخبرنا أهل القرية عن معنى "صرة" وأنّها مرتبطة بالبرد، "الصرصر". وحدثونا عن الجيب الصهيوني الذي كان يخترق البلدة بشكل مستمر للوصول إلى النقاط الاستيطانية، حتى تصدى له شباب وأحرقوه، وسألناهم عن تاريخ معاناتهم مع الحواجز.
بعد "صرة" كانت رحلة المجموعة إلى سبسطية. سبسطية قطعة من الأساطير، جمالها وقصتها تخبرنا لماذا يضحي الشهداء والأسرى لأجل فلسطين. دخلنا سجن النبي يحيى، ورأينا قبره، ومكان زيارة المسيح عليه السلام له، والمدرجات الرومانية، وملعب كرة قدم للأطفال تحيطه الأعمدة الأثرية.
تحتاج سبسطية إلى فصلٍ كامل من الحديث والتوثيق. ولكن بالتأكيد هو دفء الوحدة في صرة، وجمال سبسطية، الذي صاغ خاتمة رحلتهم، على حاجز "جباره"، أثناء العودة إلى الداخل. حينما أوقفت مجندة روسية ومجند إثيوبي، اثنين من المجموعة، لمدة تزيد عن الساعتين ونصف، فنزل الجميع من الحافلة، يدبكون ويرقصون ويغنون الأغاني الفلسطينيه، "ومن حاجز جبارة أعلناها هدّارة". أعلنوا "لن ننكسر".
===
ملاحظة من ادارة الموقع رابط صور الزيارة تجدونها هنا
https://www.facebook.com/media/set/?set=a.731393870222742.1073742806.307190499309750&type=3