حركة "فتح" في غزة- عدلي صادق
بعد حدث الاحتفال في غزة، بذكرى انطلاقة "فتح" قبل نحو سنة؛ كان لا بد من الاعتراف بأن وسائل العمل السابقة على الحشد المليوني التلقائي؛ لم تعد صالحة للاستخدام.
فالجماهير الشعبية التي احتشدت بمناقبية وكثافة مذهلتيْن، لكي تتيح لحركة "فتح" إعادة الاعتبار لنفسها، كانت كمن تؤذِّن في الفتحاويين :"حيّ على خير العمل". لقد كان واضحاً أن الذين زادوا عن المليون مواطن، أرادوا تسجيل موقف مؤيد للحركة الوطنية، لأسباب كلها ـ بدون استثناء ـ موضوعية، بمعنى أن لا سبب فتحاوياً ذاتياً، استحث الحشود، وإنما هناك مجموعة أسباب، من خارج الإرادة الفتحاوية، انتجت الحدث، وتفرعت كلها عن رفض تلك الحشود للسلطة الحمساوية.
هنا، نعترف كذلك أن حركة "فتح" في أوقاتها الراهنة، ما تزال عاجزة عن استهلال هيمنة ثقافية ووطنية لافتة، في الحيّز الغزّي الذي بدا فارغاً بعد أن انطفأت الاحتمالات الحمساوية، وتحولت وعودها بالنصر والزلازل، الى كوابيس. لذا يمكن القول إن الجماهير لم تخرج لكي تقول للفتحاويين إنا قد بايعناكم مثلما هي البيعة في معهود الشرع؛ وإنما لكي تقول للفتحاويين ها هي الأبواب قد فُتحت لكم، لجلب المنافع ودفع المضار، علماً بأنه انفتاحٌ يؤَقتُ بالأجل، ويُختَبرُ بالعمل.
منذ أن آلت الأمور في غزة الى هيمنة حمساوية، كان أول حرف من العبرة، التي ينبغي أن تستقيها "فتح" وأن تتعلمها؛ يدل على أن "النخبة" السابقة أو المجربة، التي تختصرها رموز فقدت حيويتها؛ لن تشكل مصدر استلهام والتفاف جديديْن. فالنُخب التي تشكلت سابقاً في ظلال السلطة أو بشفاعة "الموازنات" والوفرة المالية؛ ربما يصح التغاضي عن مستواها، وهي تؤدي دورها كواجهة لحزب يحكم، لكنها لن تجدي نفعاً إن كُلفت بدور الواجهة النضالية لحزب خارج الحكم، أو لحزب مُضطهد، أو حتى لحزب يتكىء عليه الحكم ولا يحكم. ذلك لأن الخصومة الماكثة حتى الآن، تتسم بطابع سجالي ذي علاقة بمدركات ومعارف وأسانيد، سياسية وتاريخية وثقافية، وحتى فقهية. فعلى الطرف المقابل لحركة "فتح" في السجال، يخلط الحمساويون بين السياسة والخيانة، وبين تحمل المسؤولية والانصراف عنها للتمرغ في نعيم الأيديولوجيا، وبين ظاهر التقوى وفحوى السلوك، وبين ظاهر الاستقامة، والفساد "الشفاف" المنظفة أسنانه بالمسواك. بين طاعة الله الواجبة على الناس جميعاً، وادعاء الإنابة عن رب العالمين لإخضاع الناس. وبين واقع موضوعي في الأراضي المحتلة اقتضته العملية السلمية الفاشلة، والحديث عن تواطؤ فلسطيني مفترض، مع العدو، لتنفير الناس من نفسها، أو لتنفير نصف الناس من نصفها الآخر.
إن هذا النوع من الخصومة أو من السجال، يتطلب إعادة صياغة المهام أولاً، ثم إعادة انتاج النُخب، ليس في غزة وحسب، وإنما كذلك في الضفة الفلسطينية وفي الشتات. فعندما تكون "فتح" معنية بدحض كل محاولات التشويه، وباستعادة مكانتها؛ لا بد من استبدال الوسائل لأن المهام باتت ذات شروط معرفية ومسلكية عالية المستوى. نحن حركة تتوخى استعادة هيمنتها الأدبية على المستوى الوطني، بما يتناسب مع إرثها الكفاحي. ولكي تملأ هذه الحركة الحيّز الفارغ بعد الانحسار الحمساوي الكبير، الناجم عن ممارسات غير "جهادية" وغير ذات تقوى؛ ينبغي إيلاء الساحات والأقاليم أهمية قصوى، وتحريم تركها للسجالات الداخلية التي تراوح في مربع الإجابة عن سؤال واحد حول مَن يأخذ ماذا من المسميات. إن أفدح ما تصاب به أية جماعة، هو أن تنكفىء على جدالها الداخلي وأن تحفظ عن ظهر قلب تفاصيل حكاياته الفرعية وحزازاته الشخصية، على حساب الإلمام بما هو مهم، أو بما يتعين طرحه للأجيال الجديدة، وبما ينبغي الاضطلاع به، من واجبات النهوض بوعي الشباب.
وللأسف، ظلت الأطر القيادية في هذا السياق، تلعب دوراً سلبياً، إذ تركت الساحات والأقاليم، غارقة في انشغالاتها الفرعية وحزازاتها، حتى باتت الخلافات طقوساً فلكلورية. لم يهبط الكبار، من سماوات التعالي على التفاصيل، لكي يحسموا الأمور بمنطق لا يأتيه الباطل من يمين أو شمال.
لن يفعل واحدنا شيئاً جميلاً في حق نفسه وفي حق عقله وأعصابة، إن اهتم بحفظ الحكايات والأسماء. ما نعرفه بشكل عام، أن حركة "فتح" في حاجة الى استنهاض ثقافي وتنظيمي، يؤهلها، للاستمرار في حمل الرسالة والأمانة والرواية، بعد أن سقطت أسانيد أهل التخوين والتأثيم.
adlishaban@hotmail.com