"فتح" الاسم الحركي لفلسطين - د. عاطف أبو سيف
طوال السنوات الخمسين الماضية، كانت فتح الاسم الحركي لفلسطين، واسم العلم الأكثر ترددا في السياسة الفلسطينية، صارت مثلها مثل مفردات العلم وحق العودة وتقرير المصير والحرية والنشيد الوطني. نجحت فتح في تقديم نفسها كحركة تحرر قادرة على استيعاب مكونات الشعب الفلسطيني وترجمة تطلعاته وآماله إلى شعارات غير مشبعة بالأيديولوجيا والأفكار الكبرى.
ففكرة فتح الكبرى كانت هي فلسطين، وغير فلسطين لم يكن لفتح طوال نصف قرن أي فكرة كبرى أخرى. على هذا الأساس كانت الصداقات تكتسب، والعداوات تحدث بناء على موقع أصحابها من فلسطين. لم يرتبط شيء آخر بفلسطين أكثر من فتح إلا ربما ارتباط رمز الثورة الفلسطينية وصاحب الفكرة الفتحوية الرئيس الراحل ياسر عرفات، حتى صار اثناهما اسمين آخرين لفلسطين، وصارت فلسطين كناية عنهما. هكذا امتزجت الثورة بالجماهير، وهكذا صارت فتح حركة الجماهير كما يطيب للفتحاويين أن يقولوا.
قد لا يذكر الفلسطيني كيف صار فتحاويا لأنه يولد فتحاويا بالفطرة، حيث إن الوطنية الفلسطينية تجد أصدق تجسيداتها في الفكرة الفتحاوية، وحيث إن فيما تقول فتح، حتى في أشد لحظات الضعف والوهن والمؤامرة والحصار، ليس إلا انعكاسا للحالة المزاجية الفلسطينية. ففتح حين تقاتل تكون التعبير الأكثر شراسة عن المقاتل الفلسطيني المستميت في الدفاع عن حقوقه، وهي حين تقرر ان تمارس بعض الدبلوماسية وتنخرط في مفاوضات لا تفعل ذلك إلا لإدراكها أن ثمة شيئا يمكن جنيه عبرها لا يمكن قطف ثماره بغيرها، ولإدراكها بأن ثمة لحظات أيضا للراحة لالتقاط الأنفاس.
هكذا تنجح فتح في خلق هذه الوصفات السحرية من أعشاب الأرض الفلسطينية، تعبر بها عن فلسطين بكل صورها.
هكذا اقتربت فتح من كنه الحالة الفلسطينية، وعبرت بصدق عن الشيفرة السرية للروح الفلسطينية. لم تقل فتح كلاما كبيرا، ولا هي استندت إلى مرجعيات فكرية معقدة، ولا اقتبست من أمهات الفكر والفلسفة. كانت فلسفة فتح وفكرتها الأهم هي الوجع الفلسطيني. كانت الصورة الأكثر التصاقا بالوعي الفتحاوي هي أن ثمة أرضا سرقت ويجب استعادتها، وأن ثمة مواطنا كان يعيش بأمان وسلام في بيته طرد من البيت ودمرت قريته ومدينته. ماذا يريد هؤلاء اكثر من أن يقال لهم إن هدفنا هو العودة إلى فلسطين.
من هنا لم يكن مهما، ويجب أيضا أن يظل غير مهم، بماذا تعتقد وبماذا تفكر، وإذا ما كنت متدينا أو ماركسيا أو رأسماليا، المهم هو استعدادك لنذر حياتك في سبيل تحقيق الحلم الفلسطيني بالعودة لفلسطين. بعبارات بسيطة وشعارات أبسط، استطاعت فتح أن تكون الاسم الحركي لفلسطين.
لم تكن المسيرة الفتحاوية بلا أخطاء ولم تكن بلا عثرات، كما أن نصف قرن من الزمن حمل تحولات مهولة وجسمية سواء في السياق الوطني أو الإقليمي أو العالمي وبالطبع الفتحوي، خاصة مع رحيل الزعيم ياسر عرفات أبو الوطنية الفلسطينية، غير أن فتح نجحت في أن تظل عامود الخيمة ومفتاح الباب الفلسطيني وحارسة النار المقدسة وعنقاء الحياة الفلسطينية والكلمة الأكثر صدقا في التعبير عن الحالة الفلسطينية.
قد لا يحب خصوم فتح هذا، وقد لا يجد منافسوها فيه أمرا مهضوما، وقد لا يعجب مثل هذا القول الكثير من نقاد فتح وأصحاب العبارات الكبيرة في توصيف الحالة الوطنية، ولكن من قال إن الأمور تقاس بغير رأي الجماهير التي خرجت بشيبها وشبابها، بقدها وقديدها مبايعة لفتح في ذكرى انطلاقتها العام الماضي في ساحة السرايا بمدينة غزة. الجماهير وحدها كما قالت فتح هي من تقول الكلمة الفصل في القضايا الوطنية. وفتح التي قد تكون أخطأت وقد تكون تعثرت في تحقيق الكثير من أهدافها، وقد تكون وجدت لها كارهين غير محبين، لكنها في النهاية تظل الشعلة الفلسطينية التي تتقد فوق قباب القدس ويخرج اسمها من دقات أجراس كنائسها.
طريق طويلة ذهب فيها الشهداء ومضوا وهم يدركون بأن ثمة من يكمل الطريق، وامضى الآلاف في سبيل الفكرة الخالدة التي حملتها فتح بالنصر خلف قضبان السجن سني عمرها الذهبية، ودماء زكية كثيرة أريقت في البحث عن فلسطين التي قالت فتح إنها وجدت من الأزل، وإنها ستظل إلى الأزل. وفي كل ذلك ورغم ما قد اعترى الحالة الوطنية والمشهد الإقليمي والدولي من تحولات، إلا أن فتح ظلت وفية لفكرتها، وإن نوعت في طرق تحقيقها ودفعت أثمانا باهظة جراء ذلك، لكنها ظلت تبحث عن الشمس الفلسطينية.
هذا يتطلب المزيد من العمل لتطوير العمل الفتحوي، لأن صلاح حال فتح وقوتها من صلاح حال فلسطين وقوتها. وهذا التطوير بحاجة لمراجعات شاملة ربما يكون عقد المؤتمر السابع للحركة المستحق في صيف العام الجديد 2014 فرصة لفعل ذلك بغية الخلوص بآليات عملة محدثة قادرة على استيعاب التغيرات والتحولات التي ضربت شواطئ المنطقة والإقليم، وأضافت أبعادا جديدة للصراع.
فتح قادرة على إنجاز ذلك وهي بحاجة لرؤية أكثر وضوحا في معالجة الكثير من الملفات خاصة تلك المتعلقة بالعلاقة بين مرحلتي البناء والتحرر. وبالطبع يظل إنجاز المصالحة وفرض الوحدة الوطنية حاجة لا مناص منها، حيث إن هذه الوحدة هي ضمانة تحقيق التطلعات الوطنية الكبرى. فتح تتحمل مسؤولية في ذلك لأنها أم المشروع الوطني، ولأنها صاحبة الفكرة ومصدرة شهادة ميلاده بمسيرتها الطويلة التي أنهت نصف قرن، لتكون بذلك أكبر تنظيم عربي يقود دولة عربية في القرن العشرين.
في مثل هذا اليوم قبل عام كانت جماهير فتح تتوافد بمئات الآلاف إلى ساحة السرايا في مدينة غزة تحتفل مع فتح ولفتح وبفتح ... هذا المشهد لم يتكرر هذا العام! هل من علامة استفهام حول ذلك، ليضعها أحدهم؟؟